هي واحدة من أجمل بيوت دمشق القديمة ذات الطابع المعماري والتفاصيل التراثية الخالدة، غدت مدرسة قائمة بذاتها لعقود من الزمن، واليوم يعاد ترميمها من جديد والحفاظ عليها، تحمل "الفيحاء" في كل مرحلة مفاهيم خاصة ومميزة عن غيرها من الأبنية الدمشقية واختيرت لتكون وجهاً حضارياً دمشقياً مشرقاً بالشكل الهندسي البديع ومضمون تربوي تعليمي هادف احتضن أجيالاً متعاقبة على مر السنين.

فنّ العمارة

بدأت المدارس في دمشق منذ عام 549 هجري مع دخول نور الدين الزنكي لدمشق بدأت تأخذ بهجتها عبر بناء السور والأبواب، ثم اعتني بمدارس دمشق أكثر خلال العهد الأيوبي فيما كانت مهملة خلال الفترة العباسية، وأول مدرسة تأسست فيها هي الحديث النبوي الشريف، يقول المؤرخ والدكتور "أحمد المفتي" في حديثه لموقع "مدونة وطن"، ويضيف: «وما يخص مدرسة الفيحاء، فبعض المصادر تقول إن هذا البناء حديث وتأسس مع مطلع القرن الماضي ويعد مزيجاً ما بين فن العمارة العربية المتأثر بفن العمارة الفرنسية، ونرى أن هناك الكثير من الأبنية في دمشق كانت توحي بالانفتاح على الحضارة الأوروبية في تصميمها ومازال أثرها باقياً حتى اليوم، يخال للرائي أنه أنشئ في عهد قريب لإتقان صنعته ومتانة بنائه وجودة طلائه ويعتبر من أشكال المباني القديمة التي تم إنشاؤها في تلك الفترة ويستحيل تقليدها اليوم، بناء المدرسة كبير وفيها غرف كثيرة وكان فيها باحتان ويوجد فيها باب من الجهة الشرقية تؤدي إلى حي من أحياء المنطقة، وبالعموم طرأت على هذا البيت تطورات جمة لدواع أهمها الميل إلى التقليد أو التجديد، وأدى ذلك كله لهجران بعض الناس هذه المباني أو الأحياء القديمة والانتقال إلى الأحياء الحديثة التي شيدت مجدداً في دمشق، لذلك من المهم العودة إلى تلك المباني القديمة وترميمها من جديد مع المحافظة على هويتها وإلا تداعت إلى الخراب، وبالعودة للأبحاث التاريخية يقال إن في الصالحية وحدها ثلاثمئة وستين مدرسة مفتوحة الأبواب لكل قاصد، والبعض منها مازال قائماً حتى اليوم».

من المعروف أن التخلف أيام العثمانيين كان مطبقاً بشدة على الناس لسنين، ولم يسمحوا ببناء مؤسسات تعليمية في سورية، ولكن بعدما جاء الأوروبيين مهدوا لنشر التعليم في البلاد وذلك عبر إرسال البعثات التبشيرية التنويرية، ما مهد إلى ضرورة تحويل بعض المباني في دمشق إلى مدارس تنشر العلم والثقافة ومنها مدرسة الفيحاء الحديثة التي كانت عاملاً مهماً من عوامل تعزيز اللغة العربية كلغة أساسية وبرفع سوية العلوم كلها أسوة بالمدارس الأخرى. وكانت المدرسة تضم في البدايات نخبة متميزة من المجتمع المحبة للعلم والشغوفة بالثقافة، وعلى الرغم من أن عدد المتعلمين بالعموم كان قليلاً في أوائل القرن الماضي، لكن مستوى التعليم كان عالياً والمدرسون على قدر عالٍ من الثقافة والكفاءة والانتماء، ما أدى إلى زيادة النهضة التعليمية ورفد المعلمين من خارج البلاد وإلغاء التعليم بالمال ليصبح إلزامياً للجميع عام 1970

عبق القصور

تعد الفيحاء من المباني المتاخمة لعمارة البسام الناجية من الحريق في أواخر عام 2019 في الجهة الغربية من جادة الصالحية وهو مبنى "واصل بيك" بناه "وجيه بن مؤيد العظم" -يقول الباحث في التاريخ "نايف جباعي"- ويضيف: «هذا ما أكده الدكتور حازم مهندي بأن المبنى سكنته ابنته من بعده شفيقة خانم العظم وزوجها إبراهيم أفندي العجلاني ومن هنا جاءت الإشكالية في المراجع التاريخية على أنه بيت العجلاني، استأجرته لاحقاً مديرية التربية والتعليم في سورية وصيرته مدرسة للتعليم الابتدائي وكانت معروفة باسم الفيحاء خلال فترة الستينيات وما بعدها، وسميت لاحقاً باسم الطفلة "رؤى الصاري" التي استشهدت في تفجير إرهابي عام 2015 في الساحة المتواجدة فيها المدرسة، ويعتبر البيت من أجمل بيوت جادة الصالحية الباقية إلى يومنا هذا، مع أن جميع البيوت التي نهضت بالصالحية اعتمدت على مبدأ الانفتاح الكامل على الشارع مع الاعتناء بالواجهات التي زينت بالفتحات الجميلة كما امتاز هذا القصر مقارنة ببقية البيوت حالياً بظهور طوابق علوية ذات منافذ متوسطة الأبعاد والارتفاع لا تنفذ منها حرارة الشمس ولا برودة الشتاء إلى الغرف إلا بمقدار معتدل، بينما لابد من نفوذ النور إليه كسائر البيوت الدمشقية القديمة التي يتخللها الهواء النقي، يتميز البيت بجملون كبير واسع وفي ذروته غرفة الطيارة "الفرنكة" الجميلة، كما احتفظت هذه المدرسة بجمالها وترتيبها الجواني العريق كبيت عربي أساسي فيه كيوان، وأرض الديار المزدانة بالنباتات والورود وأشجار النارنج والكباد، وتعطي فسقية الماء "البحرة" أجواء استثنائية لها كمدرسة للطلاب ولم يكن هذا الاهتمام فيها داخلياً بقدر ما كان اهتماماً بالتصميم الخارجي لها لاسيما أن باحتها كانت شبيهة جداً بباحة قصر العظم من حيث النمط المعماري والرخام والمرايا المزركشة العالية».

مدرسة الفيحاء

شغف التعليم

د. احمد المفتي

كانت المدرسة الفيحاء نموذجاً مهماً من نماذج التحفيز على التعليم يقول الأستاذ والباحث في التاريخ "زهير ناجي": «من المعروف أن التخلف أيام العثمانيين كان مطبقاً بشدة على الناس لسنين، ولم يسمحوا ببناء مؤسسات تعليمية في سورية، ولكن بعدما جاء الأوروبيين مهدوا لنشر التعليم في البلاد وذلك عبر إرسال البعثات التبشيرية التنويرية، ما مهد إلى ضرورة تحويل بعض المباني في دمشق إلى مدارس تنشر العلم والثقافة ومنها مدرسة الفيحاء الحديثة التي كانت عاملاً مهماً من عوامل تعزيز اللغة العربية كلغة أساسية وبرفع سوية العلوم كلها أسوة بالمدارس الأخرى.

وكانت المدرسة تضم في البدايات نخبة متميزة من المجتمع المحبة للعلم والشغوفة بالثقافة، وعلى الرغم من أن عدد المتعلمين بالعموم كان قليلاً في أوائل القرن الماضي، لكن مستوى التعليم كان عالياً والمدرسون على قدر عالٍ من الثقافة والكفاءة والانتماء، ما أدى إلى زيادة النهضة التعليمية ورفد المعلمين من خارج البلاد وإلغاء التعليم بالمال ليصبح إلزامياً للجميع عام 1970».

الباحث نايف الجباعي

رسالة تربويّة

دخلت إلى مدرسة الفيحاء عام 1981 عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية يقول "طارق عجلاني" ويضيف: «لا يمكن أن أنسى ذكرياتي فيها رغم مضي حوالي 40 عاماً، كانت أياماً استثنائية وجميلة برفقة أقربائي وأصدقائي ضمن المدرسة والتي كانت معروفة في ذلك الوقت باسم "بيت العجلاني" فالمنطقة كانت لها خصوصيتها، لأن هذه العائلة كانت تتوزع بشكل كبير في مناطق الشعلان، أبو رمانة وساحة النجمة بـ"دمشق"، وحسب ما أذكر كانت المدرسة متميزة عن بقية المدارس لكونها ضمت أسرة تدريسية مقربة جداً من أهالي جميع الطلاب لها تعامل خاص معهم من ناحية تقديم العلوم بكل إخلاص وتفانٍ، وكانت مصدراً لإنشاء جيل تربوي صالح استقينا منه دروساً عن الحياة والعلم ومعنى ربط الماضي بالحاضر وأهمية رسم المستقبل، فبذلت إدارتها كل مجهود في تأسيس جيل تواق للمعارف، أغلبية الطلاب كانوا من المنطقة نفسها وكانت تجمعهم بيئة اجتماعية واحدة، لم يكن هناك فوارق اجتماعية لأن تلك الفترة لا تعتبر أن منطقة المتواجدة فيها المدرسة تضم الأثرياء فقط بدليل أن المدرسة كانت تحتضن جميع طبقات المجتمع ولم تكن حكراً على أبناء الفئة الغنية وإنما ضمت الدمشقيين القدماء وحسب، وهي مازالت بالنسبة لي شعاعاً أنار حياتي بأنوار العلوم والمعرفة المختلفة».