الملخص:

كرّس الفنان الراحل "سهيل معتوق" نفسه للفن التشكيلي والعمارة الداخلية وللتدريس الأكاديمي، وتمكن من إبداع أشكالٍ فنية مذهلة في لوحاته التي تفنن فيها برسم "دمشق" كما يليق بها، كما قدّم إنتاجاً فنياً عريقاً متناغماً بين الخطوط التشكيلية والمعمارية، ولوحات جمالية تدفع بخيال المتلقي للدراسة والاكتشاف والتأمل.

لا أحد يستطيع الحديث عن تجربة الفنان أكثر من الفنان نفسه

نسيج معماري

يؤمن مصمم الديكور والمصور "سهيل معتوق"، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة أن اللوحات تحمل بالعموم موضوعاً يتعلق باختصاص الفنان، لذلك أخذت أعماله طابعاً معمارياً، يقول الباحث والإعلامي "سعد القاسم" لموقع "مدونة وطن": «اعتمد الفنان الراحل الأسلوب المعماري في نسيج اللوحات، وعلى استعارات مختلفة لعناصر من البيوت الدمشقية وتوليفها وإعادة تشكيلها من جديد، مع تأكيد التكوين الرصين في إحداث تلخيص خاص تكون جميع هذه العناصر التكوينية فيه متفاعلة بنمط فني واحد منسق لا يشتت العين، عناصر مستقاة من البيئة الشعبية للبيوت والأحياء السكنية الدمشقية، والتي لم يضع المعماريون مناهج ومخططات لبنائها، إنما جاءت عفوية متأثرة بالتقاليد والأعراف الموروثة، ذات طابع تراثي واضح، لذلك كانت هذه الأعمال الفنية شاهد حق لعالم هذه البيوت والأحياء الشعبية وما تعطيه من جماليات، تجعلنا نسترجع من خلال ذكرياتنا و أذهاننا ما قد افتقدناه من هذه العوالم، والتي مازال البعض منها قائماً حتى الآن، تعطي وجه الحياة فيها صفات ومناخات لا تستطيع أن تعطيها دروب الحياة المعاصرة، وظهرت بأشكال متمسكة بوسيلة التجميل البيئية الخاصة، ألا وهي المواد الخام المستخدمة من طين وحجر وخشب وما شابه من خامات الطبيعة بأصولها ونقائها».

إحدى لوحات الفنان

بيان فنيّ

تفاصيل تشكيلية دمشقية في لوحة للفنان سهيل معتوق

ويضيف الباحث "القاسم": «لا أحد يستطيع الحديث عن تجربة الفنان أكثر من الفنان نفسه»، ويتابع قائلاً: «ما يعزي برحيل "معتوق" أنه قد ترك لنا عدداً كبيراً من اللوحات الجميلة التي ميزها بأسلوبه الخاص، وترك ما يشبه البيان الفني عن تجربته، أنجزه قبل نحو عام بناء على طلب مجلة (الحياة التشكيلية)، وكان من المقرر أن يكون العدد الذي نشرت به المقالة "البيان"، بين يدي القارئ منذ نهاية العام الماضي لولا الظروف التي حالت دون طبع العدد حتى اليوم، متأثراً بقول المعمار المصري الكبير "حسن فتحي" رائد العمارة الوطنية عن نفسه إنه (لم يبتدع فكراً جديداً، ولكنه يقيّم التراث ويجعله متصلاً بالحاضر)».

ويضيف "القاسم": «يكتب سهيل معتوق (ليست هذه البيوت الشعبية والدمشقية التي جاءت في لوحاتي صوراً عن الواقع، بل هي خيالات اُستحضرت من الذاكرة الفكرية والبصرية، جاءت بصيغة تشكيلية مغايرة للواقع)، كما وجد أن الرمز يخدم رؤيته فيما يقدمه من أعمال فنية بلغة تشكيلية لها خصوصيتها وتفردها، ويحدد هذه الرموز بداية من فعلي الحياة والموت، المتمثلين بالأرض والسماء، فالأرض تظهر عناصرها المعمارية في اللوحة باللون البني ودرجاته والسماء تضفي بقدسيتها قيمة رمزية، كما تحضر الخطوط الطولية المنعكسة من العناصر المعمارية والمنبثقة بحاله تشكيلية وبامتداد من الفناء المفترض في اللوحة، تكتسب صفة الخفة والرشاقة وترفُع الروح لأنها متوجهة إلى السماء، بينما الخطوط العرضية والأفقية فهي ذات تعبير راسخ وثقيل تعكس مبدأ الأفقية في العمارة الإسلامية، والتي لا تحجبها ارتفاعات المباني الأخرى».

رمزيّة

يمضي "معتوق" حسب رأي "القاسم"، في تفسير دلالات الأعمدة الخشبية ورمزية الباب الواحد وأقواس الأبواب والقمر الهلالي وما تبقى من رموز عديدة، ويتحدث عن اللون وعلاقته بالعمارة الطينية الشعبية الدمشقية فالجانب التعبيري للون يفرض نفسه بطريقة تلقائية، ويرى الراحل أن جميع الأساليب الفنية التي ظهرت بعد الانطباعية قد تخلت عن البعد الثالث والمنظور، وهكذا كان حال مصوري المنمنمات، الذين يعمدون إلى ترتيب الهيئات البشرية والأشياء لتبدو مسطحة أو أن تحتفظ الأشكال بحجمها سواء في مقدمة اللوحة أو في عمقها لا يستعملون فيها المنظور الرياضي، لذلك لم يعتمد في رسم عناصر البيوت الشعبية الطينية الدمشقية في اللوحات على مبدأ الظل والنور والمنظور التقليدي، بل اعتمد على الإيهام بتغيير الحجوم حسب الأهمية وحسب ما يطلبه التشكيل والتكوين الفني في اللوحة".

جماليّة عصريّة

التشكيلات المعمارية القديمة لم تكن في لوحات الفنان الراحل "سهيل معتوق" سوى استعادة بصرية تؤكد معطيات الذاكرة الطفولية، وفي هذا السياق يقول الفنان والناقد التشكيلي والمؤرخ الموسيقي "أديب مخزوم": «تتجاوز المؤشرات الواقعية نحو العمق الآخر للمشهد، الذي يبرز باللون الشاعري والشفاف والضوء والمساحات في خطوات التعبير عن العلاقة الحميمية التي كانت قائمة بين الفنان الراحل وبين بيئته الحية المترسخة في وجدانه منذ أيام الطفولة، هكذا بدت لوحات العمارة القديمة أميَّل إلى التجريدية المتداخلة مع بعض العناصر الواقعية (كأحواض الزهور والورود) المتميزة بشاعريتها وبشفافيتها البعيدة عن التكثيف اللوني وعن العفوية، والتي تحقق عنصر الصفاء اللوني في صياغة المساحات المتجاورة والمتداخلة والمستمدة من إيقاعات تشكيلية حديثة، والإيقاع التشكيلي البارز في لوحات الفنان عن العمارة القديمة يكمن في قدرته على الجمع بين الإشارات الهندسية في إضفاء المساحات المربعة والمستطيلة وأقواس القناطر والقباب والزخارف والخطوط الأفقية والشاقولية، وبين العناصر النباتية وأحواض الزهور وحبال وملاقط الغسيل، والتي تحقق نوعاً من الحوارية البصرية في فضاء الشكل المعماري الخيالي، ولئن كان قد اعتمد على تشكيل مساحة هندسية، فإنه استطاع بذوقه وبحساسيته البصرية والروحية العالية تحويل أشكال المربعات والمستطيلات والأقواس والزوايا إلى حركة ذاتية، وإن اقتربت من الرزانة والحسّ الرياضي والعقلاني، ما يعني أنه كان يعتمد على الحركة الإيقاعية للون الشاعري، ولقد ظل على ارتباط بالصورة والواقع، من خلال بحثه الدائم عن ملامحه العامة أو إشاراته المبسطة والمختزلة ولقد حافظ على خصوصية أسلوبه، متنقلاً بين الرسم بألوان محددة، والتركيز في أحيان أخرى على تدرجات الأبيض والأسود، وبذلك كان يعمل على كسر نظام الشكل وأفقيته الواقعية، ويصل إلى التأليف الفني الحديث والمعاصر».

حوار الرّيشة

الفنان "سهيل معتوق" كان يرسم بصمت بعيداً عن الناس والإعلام، يقول الفنان التشكيلي "موفق مخول": «اختصر الراحل عمله الفني بالحوار مع الأبنية الدمشقية القديمة بعيداً عن الواقعية والتقليد، وكانت له خصوصية وتفرد في لوحاته من خلال تحويل البيوت الدمشقية إلى كتلة معمارية وبناء هندسي قريب إلى التجريد التعبيري، كانت ألوانه المفضلة من مشتقات البني والأبيض، لكنه رهن أغلب وقته للتدريس الأكاديمي، كان برأيي معقلاً فنياً رغم إبداعه الفني الرائع، لروحه السلام».

عاشق دمشق

التقيت بالفنان الراحل سهيل معتوق في ملتقى "سورية جسر المحبة" في قلعة "دمشق".. يقول الفنان التشكيلي "جلال شيخو": «كان لطيف المعشر لبقاً بالتعامل، هو فنان ذو إحساس عالٍ ومتميز وهادئ، لوحاته تشبه روحه وفكره وهي مزيج ما بين اختصاصه بالفنون الزخرفية والعمارة الداخلية، يشترك مع الشاعر "نزار قباني" في عشقه لدمشق ما بين الكلمة العاشقة والمفردات البصرية المحملة برائحة الأحاسيس، يدور في فلَك مدينته ومداراتها الساحرة، وهو الذي استعار مفرداته البصرية الزخرفية بلوحته من البُسط التي كانت تَحوكها الأيدي الماهرة بحب وعجنها بروحه مع الخشب والطين والحجر، لوحته هي بصمته وتوقيعه يعرفها الناظر إليها من أول نظرة، أسلوبه مختلف عن كل الفنانين الذين رسموا لدمشق، رحل لكن أعماله بقيت وأصحبت جزءاً من ذاكرتنا وذاكرة الفن التشكيلي السوري».