لم يكن البحث عن "دمشق" جديدة سهلاً أبداً، فما يخطر في أذهان الناس عن المدينة التاريخية، ينحصر في العمارة القديمة للبيوت والحواري والأزقة، وهو ما ذهبت إليه كثيرٌ من الأعمال الفنية، التي لم يتمكن أصحابها من إظهار خصوصيةٍ تُميّز لوحاتهم عن غيرها غالباً، ولهذا السبب بدايةً كان نِتاج "آيات الزعبي" 1998 موضع اهتمامٍ كونه يتخلى -في ظهوره الأول أمام الجمهور- عن المألوف والمُعتاد نحو الجديد والمُختلِف، مُستنداً إلى بحثٍ ودراسةٍ لتفاصيل وجزئيات اعتاد البعض رؤيتها باستمرار حتى غابت عنهم فرادتُها، ومن ثم يأتي اشتغالها المُتأني والمتنوع على التقنية.

نشأتْ الزعبي في بيتٍ يهوى أفراده الرسم، لهذا وجدت موهبتها دعماً، أضافتْ إليه دراسة الفنون النسوية في المرحلة الثانوية، وفيها تعلّمت الكثير عن الأشغال اليدوية، ثم التحقت بكلية الفنون الجميلة "قسم الرسم والتصوير"، حيث أتقنت ما يتعلق بتقنيات الإكريليك والألوان الزيتية والفحم، تقول في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "عملت خلال الدراسة على تقنية الكولاج بعيداً عن الألوان وبالاعتماد على الخامة الموجودة بين يدي أيّاً كانت "قصاصات جرائد، ورق، أشرطة، أقمشة"، وهذا ميّز المواضيع التي عملت عليها، كونه يحتاج دقةً للوصول إلى النتيجة المرجوة وتوضيح التكوين".

قدّمت الفنانة مشروع تخرّجٍ بالألوان الزيتية وبأسلوبٍ واقعي تحت عنوان "روتين" عام 2021، عرضت فيه يوميات عائلتها، وفي الإطار ذاته كانت لها عدة تجارب، من بينها لوحاتٌ مشغولة بالحبر، لكن رغبتها في التنويع وعدم الوقوف في نقطةٍ واحدة، دفعتها للتجريب بأساليب أخرى، تقول: "لديّ القدرة على الإنتاج بتقنيات وطرائق مختلفة، وأكثر تطوراً أيضاً مُستقبلاً ولا سيما أنني أعمل لساعاتٍ متواصلة والإنتاج عندي غزير".

تُدرك الفنانة بأن رأيها تجاه ما تُنجزه غير كافٍ، لهذا عرضت أعمالها على عددٍ من الخبراء والمُهتمين، وحين وجدت منهم تشجيعاً وردّ فعلٍ إيجابياً، قررت المتابعة مع رفد مجموعتها من اللوحات بالمزيد، لإقامة معرضها الأول رغم أنه لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على تخرجها، تضيف للمدوّنة: "أن يقتنع الفنان بما يقوم به ويفهم تماماً الخطوات التي يسير وِفقها، أمرٌ ضروريٌ جداً، ليعي موقعه ويتمكن من إيصال فكرته للجمهور بشكلٍ بسيط وواضح".

تنقّلت الزعبي بين منطقتي باب شرقي وباب توما، والتقطت صوراً لأماكن لا يقصدها الناس عادةً للمشي والتسلية، رسمتْ استناداً لها خمساً وثلاثين لوحةً بأسلوبٍ تجريدي، وهو نوعٌ فنيٌ يعتمد على أشكال ونماذج مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات والمرئيات في صورتها الطبيعية والواقعية، حيث تتحول المناظر إلى مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو أشكالٍ من الصخور أو السحب، أي مجموعة قطعٍ إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة.

تقول: اعتدنا رؤية "دمشق" بالألوان وضمن ترتيبٍ معين، نادراً ما يتم تجاوزه، لم نرها بالطريقة التجريدية، هذا ما أردت قوله تحت عنوانٍ يحمل اسم المدينة كما أُحبها وأجِدُها، ولهذا اخترتُ "غاليري مصطفى علي" في باب شرقي للعرض، لأن بناءها وموقعها ينتميان نوعاً ما إلى أعمالي، وكالعادة تنوعت شرائح الزوّار ورؤيتهم للمدينة بمنظورٍ جديد، هناك من أبدى تفاعلاً واهتماماً مع الأعمال رغم أنهم لم يفهموا أسلوب العمل، بالطبع حين شرحتُ لهم رؤيتي أصبحت مشاعرهم أكثر وضوحاً وتحديداً.

المعرض حفّز الزعبي للاستمرار في تنويع التقنيات والأساليب، وهي الفائزة في الجائزة الثانية في مسابقة البورتريه لإعادة التدوير في قلعة دمشق 2021، إلى جانب عملها المستمر في "اسكيتشات" وعمليات قابلة للتجريب، تحضيراً لموضوعٍ جديد يُمكن التوسع فيه، من دون أن تكون فكرة معرضٍ ثانٍ حاضرة بالضرورة، تقول: "سواءً كان الإنتاج متدفقاً أو بطيئاً، يجب أن يُعطي كل منا نفسه الوقت الذي يحتاجه لتكتمل المحاولة وتقترب من كونها ناجحة وذات قيمة".

الفنان والناقد أديب مخزوم، وَجَدَ في تجربة آيات الزعبي جمالية التفاعل مع إيقاعات العمارة الدمشقية القديمة المعرضة لمخاطر الاندثار والزوال، حيث يقول: "الأعمال المُنجزة في غالبيتها بالكولاج وجزءٌ منها بتدرجات الحبر، والمُستوحاة من علاقة الفنانة المباشرة وغير المباشرة مع البقية الباقية من جمالية آثار المدينة، أرادت من خلالها توجيه تحية إلى الجمالية الهندسية المترسخة في البنى المعمارية القديمة، الباقية في مشاهدات القناطر والأقواس والأزقة والأحياء والجدران وغيرها من معالم المدينة القديمة، اللوحات فيها ملامح من مؤشرات التفاعل مع هذا الحلم الشرقي، الذي لا يزال رغم سجل الغربة التي نعيشها حياً في نفوسنا وذاكرتنا، وهي تنحاز نحو التبسيط والاختصار والتجريد، لإبراز إشارات المشهد عبر المساحات المسطحة المتجاورة والمتداخلة، والتي تبحث من خلالها عن خصوصيةٍ فنيةٍ وتشكيليةٍ مميزة".

بدورهِ قال الناقد والنحّات "غازي عانا": "آيات الزعبي فنانةٌ موهوبةٌ قبل كل شيء، بسيطةٌ إلى حدّ الدهشة، معرضها الأول سيكون برأيي بداية انطلاقةٍ جيدة ونوعية للفنانة الشابة على الساحة التشكيلية السورية، وربما يؤسّس لخصوصيةٍ تُميّزها مبّكراً، ظهرت في أعمال الكولاج وبدت فيها مُغامِرة من الطراز الرفيع لاستخدامها هذه التقنية بطريقةٍ مختلفة فيها كثير من الجرأة، تبدو للوهلة الأولى أنها مستعجلة في اختيارها للقصاصات أو لصقها بهذا الشكل من الفوضى الجميلة، لكن نتائجها تتضح أكثر كلما ابتعدت عن اللوحة لتستقر بشكلٍ مُلفتٍ ومُمتعٍ للبصر، يمكن له أن يشرد في فسيفساء تلك التناغمات مع بعضها، حالاتٌ أشبه بالحلم الذي تتمنى ألّا ينتهي".