إذا كانت السيرة الذاتية وصفاً لحياةٍ أو وثيقةً تتضمن عرضاً لخبراتٍ ومُنجزاتٍ حققها أحدنا، فالأجدى عند الحديث عن الدكتور "فايز الداية" مَواليد دوما - دمشق 1947، استبدال المُصطلح المُتعارف عليه بآخر يُوازي الرحلة التي تتوالى المحطات فيها من تلقاء نفسها، مُتكئةً على شغفٍ ورغبةٍ في البحث والكتابة والتجديد في اللغة والنقد والأسلوب، إلى جانب اهتماماتٍ في المسرح والسينما والتلفزة والإذاعة، حتى يحار مُحاوره من أين يبدأ، وكيف يختصر ما أفرد له أستاذ النقد والبلاغة وعلم الدلالة في جامعة حلب، عمراً بأكمله، وهو الحاصل على جائزة الدولة التقديرية لهذا العام، تتويجاً لحصاد المواسم مع الكتب والمقالات وأعمال الدراما "مُدوّنة وطن" التقت الدكتور فايز الداية.

حرية الاختيار

البحث في مشوار الداية، يُظهِر سعياً مبكراً نحو المُطالعة وحب المعرفة، وهو ما يستحضره بالقول: "كانت الكتب والمجلات المتنوِّعة تملأ الفضاء في البيت، والاذاعات تصدح بالأغاني والحوارات والدراما، بهذا تحرَّكت في داخلي ميول الفن الدرامي والموسيقي والاهتمام اللغوي والتاريخي، والمفتاح الأساسي هو القراءة فلم أترك ورقةً أراها من غير قراءتها، ومن مبادرةٍ للمعلمة في المدرسة تعلَّمت أن أشتري بقروشي القليلة القصص وكتيبات النوادر والأغاني ثم مجلة الأطفال (سندباد)، فتعددت ألوان العالم بين الخيال والواقع وبأبعادٍ إنسانية، والأكثر أهمية هو نُمو حرية الاختيار".

أما عن دور الأسرة والمُحيط القريب في ظهور هذا الاهتمام، يُضيف: "لم يكن دور الاسرة مباشراً في تحديد القراءة أو تفاصيلها، وإنما هو مناخٌ عام يقدِّر المعرفة طريقاً في الحياة، ويحترم الفن ودوره في المتعة والرقي، ولعلَّ النقطة المنهجية الأساسية هي الاهتمام بالجدية والنجاح فلم أحصر جهدي في كتب المدرسة، بل كانت القراءة المتنوعة رديفاً ورابطاً بالدنيا المعاصرة.

شخصياتٌ مؤثرة

سألنا الدكتور الداية عمّن يرى أنهم ساهموا أو لعبوا دوراً فيما حققه، وما تحفظه الذاكرة من أسماءٍ لمُعلمين أو باحثين أو غيرهم من الشخصيات التي تركت بصمة أو أثراً في مشواره، يتحدث عنهم: "التأثير القريب في مساري العلمي كان في البيت فأخي الأكبر د. محمد رضوان سبقني بعشر سنوات ودرس اللغة العربية وآدابها، وكان الأول وكُرِّم في عيد العلم في القاهرة 1960، فانفتحت أمامي دنيا اللغة والأدب في كتبه ومجلاته، وكان لعددٍ من المعلمين لفتاتٌ تكتمل فيما بينها، فالمعلمة "عطية النابلسي" في الصف الثالث التي أطلقت علاقةً مميزة بالمطالعة، وسعدتُ بأن يصحبنا مدرسٌ واحدٌ للعربية في كل صفوف الثانوي، وسعيتُ مع توصية أستاذي "عبد الهادي هاشم" إلى مكتبات عددٍ من الأديرة بدمشق أسأل عن الكتب في فقه اللغة، وكان الأساس المتين في قسم اللغة العربية مع أستاذ النحو "سعيد الأفغاني" وأستاذ الأدب الجاهلي د. "شكري فيصل"، وفي دراساتي العليا بجامعة القاهرة لقيت التشجيع والتقدير لما أنجزته في البلاغة وعلم الدلالة، وخاصة مع الدكتور "عبد المنعم تليمة" ود. "شكري عيَّاد" ود. "محمود فهمي حجازي" ود. "سهير القلماوي".

أرحلة الدراسة

أما عن الدافع أو الحافز الذي كان يعود إليه دائماً عندما يشعر بالتعب أو التعثر في أمرٍ ما، فكيف كان ينهض مُجدداً؟، يُجيب: "كانت مفاصل رحلة الدراسة تضعني أمام مراوغةٍ تتأرجح بين الاستمرار أو التباعد أو التداخل، فأتماسك وأعبر بهدوءٍ هذا المضيق، وأنطلق بطاقةٍ عاليةٍ لأبرهن أني جديرٌ بتحقيق الهدف، فمع نهاية الابتدائية فكَّر الأهل في أن أتابع في مدرسة الصناعة بدمشق، فقدمت الامتحان العام والخاص بالصناعة معاً، وبسبب هذا التداخل حدث اضطرابٌ في النتائج، ولم يظهر اسمي مع الناجحين، وكنت أمضيت صيفاً في دكان خياطٍ تعلمت بعضاً من المبادئ، وجاءني صديقٌ يقول: هناك أخطاء في النتأئج والمراجعة في مديرية التربية بدمشق، فذهبت أصحب البطاقة الامتحانية، وبعد يومين أخذت النتيجة العامة الناجحة، فحملتها إلى ثانوية دوما ونجوت من الصناعة التي اقترحوها، وقد ازددت بهذه التجربة النفسية ثقة وإصراراً، وفي المرحلة الثانوية كان عليَّ إما البقاء قرب البيت في دوما ومع الاصدقاء في القسم العلمي أو الذهاب إلى دمشق يومياً لاتابع الادبي في واحدةٍ من ثانوياتها، واخترت هوايتي وميولي، وبعد الحصول على الثانوية كان الخيار المناسب الالتحاق بسنة دراسية خاصة والتعيين المضمون بوظيفة معلم، ويمكن بعدها متابعة الجامعة، لكنني آثرت الدراسة في قسم اللغة العربية متفرِّغاً، ولم أطلب في سنتي الأولى غير أجرة الطريق، وفي نهايتها 1967حصلت على أول مبلغ وهو مكافأة التفوق بمرتبة جيد جداً ومقداره خمسمئة ليرة، واستمر التفوُّق حتى التخرُّج. واليوم رغم السنوات الصعبة يظل الوطن خيارنا، فهذه الأرض عرفت الحضارة المكتوبة من خمسة آلاف سنة وأهدت الدنيا حروفها الأبجدية، وأقامت قبل الميلاد بعشرة آلاف سنة أول تجمعٍ حضري في القرى النطوفية شمال حلب".

بين العلم والفن

القراءة المُتنوّعة كما وصفها الداية مهّدت لِنتاجٍ ثري واهتماماتٍ يصعب حصرها، لكن لهذا سببٌ آخر برأيه: "كان وراء تنوع اهتماماتي وإنتاجي إدراكٌ لضرورة التفاعل بين العلم والفن، وأنا اخترتُ التخصص في مجالين لم يكونا يحظيان بالباحثين وهما البلاغة وفقه اللغة، وجعلتُ من حبي للدراما والموسيقا أداةَ تُغني وتُعمِّق، جاء أداء الرسالة متعدداً ومتنوِّعاً، فقدَّمت الكتب المتخصصة غير المسبوقة في علم الدلالة والأسلوبية وكذلك البحوث في الدوريات العلمية؛ وفي المؤتمرات الأكاديمية وهناك المقالات الثقافية التي تخاطب شرائح واسعة من المثقفين ومُحبي المعرفة، وتوجَّهتُ إلى الإذاعة والتلفزة ببرامج عن الدراما وجوانب ثقافية أخرى، وأخذتْ وسائط التواصل المعاصرة تبثُّ بعضاً من هذا النتاج مقروءاً ومرئياً، وضمن هذه الرؤية قدَّمت أعمالي الدرامية في الذاعة والمسرح، وكان التوازن قائماً في هذا التنوُّع".

إصداراتٌ وإنجازاتٌ

رَفَدَ الداية الحياة الثقافية محلياً وعربياً بإصداراتٍ مُختلفة من الدراسات والأبحاث والكتب، يشرح عنها للمدوّنة: "لقد بلورتُ لأول مرةٍ الصيغة المنهجية للدلالة علماً له مُصطلحاته الواضحة وإجراءاته النظرية وتطبيقاته، في كتابي (الجوانب الدلالية في نقد الشعر في القرن الرابع الهجري 1978)، ثم في الصورة المكتملة (علم الدلالة العربي/ النظرية والتطبيق 1985) وقد تتابعت طبعات الكتاب حتى 2012 وبعدها أتحته للتحميل في شبكة المعلومات،و طُبِعَ في الجزائر، وقُرِّر في جامعاتها أواخر الثمانينات، وكذلك وضعتُ المصطلح والدراسة مع التطبيق الأدبي لـ (جماليات الأسلوب/ التركيب اللغوي 1981) و(جماليات الأسلوب / الصورة الفنية في الأدب العربي1991) وكذلك لمصطلح ودراسة جديدين (الأسلوبية الدلالية في الأدب العربي/ النظرية والتطبيق 2016)، ويضم الكتاب منهجاً له كيانه الذي تمَّت مثاقفته مع الدراسات العربية والعالمية والوصول إلى اقتراحات جديدة".

بالإضافة إلى الكتب المُؤسِسَة في ميدانها، للدكتور الداية إنجازات يعدّها محطاتٍ فارقة في رحلته، يقول: "كانت مرحلة تحضير الماجستير والدكتوراه في جامعة القاهرة حاسمةً في تبلور مشروعي العلمي والثقافي في الدلالة والأسلوب والدراما، كما كانت إقامتي وعملي في الكويت فرصةً إنتاجيةً كبيرةً شملت تطبيقات المنهج الدلالي النقدي، من خلال البحوث والنشاط الثقافي الذي التقيت فيه بالباحثين والفنانين من أرجاء الوطن العربي".

المشهد الثقافي المحلي

في الكلام عن المشهد الثقافي المحلي، يرى الداية أنه "يحفل بدواوين وروايات ومجموعات قصصية، ولكن ليس هناك حركة نقدية رغم وجود كتابات نقدية جادة، فالقصد إلى افتقاد التفاعل كما يلفت الانتباه على حد تعبيره "إقبال الشباب والشابات في كل المدن السورية على تقديم أعمالٍ أدبية، ولاتحاد الكتَّاب دورٌ إيجابيٌ في هذا النشاط، وهناك قدراتٌ مبشرة في أجيال مُدرسي ومُدرسات الجامعات، ولكن تعترض مشكلة التأسيس المعرفي الشامل والتطبيق والتفاعل، وما لم يتوافر هذا فسيظل إيقاع النقل والتقليد للآتي من بعيد.

الريادة عربيّاً

الدكتور "فاروق اسليم"، الأستاذ في كلية الآداب في حلب وعضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، تحدث لـ "مدوّنة وطن" عن الدكتور الداية، مُستحضراً عدة محطاتٍ في رحلته منها "قدومه إلى جامعة حلب مُعيداً عام 1971، وهو الآن أستاذ النقد والبلاغة وعلم الدلالة، وقد عمل أستاذًا زائراً ومُعاراً ومُتعاقداً ومُحاضراً في عدد من الجامعات السورية والعربيّة والأجنبيةّ، وشغل في أثناء ذلك مهمّاتٍ إداريّة واستشاريّة علمية في جامعتي حلب وصنعاء وفي مؤسّساتٍ ثقافيّة عدّة، ونال جائزة الدولة التقديريّة السوريّة لعام 2022 في مجال النقد والدراسات والترجمة".

يقول اسليم: "تميّز إنتاج الداية العلميّ بالريادة عربيّاً في المجال اللغوي والنقدي الأسلوبيّ تنظيراً وتطبيقاً، وقد وضع مصطلحاتٍ، منها (علم الدلالة العربيّ) و(جماليات الاسلوب) و(الاسلوبيّة الدلاليّة)، وقدَّم كتباً تأسيسية في هذه المجالات، اتّخذت سيرورةً متتابعة لمشروعٍ في أعمالٍ متكاملة منذ 1978 حتى 2022 ووصلَ إلى قطاعاتٍ واسعة، عبر الصحافة والجمعيات العلميّة والثقافية، إضافةً إلى نشاطه المسرحيّ وتقديمه البرامج الثقافية في الاعلام الاذاعي والمتلفز.

قُدوةٌ في سجاياه

بِدوره "نذير جعفر"، الناقد والروائي، ومُقرر جمعية النقد في اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، عاد أيضاً إلى أربعين عاماً مضت عَرَفَ خلالها الدكتور فايز الداية، منذ كان أستاذه في كلية الآداب بجامعة حلب حتى يومنا هذا؛ يقول لـ "مدوّنة وطن": "توطّدت علاقتي به في الكويت خلال عمله أستاذاً جامعياً فيها حيث كنت أميناً لتحرير مجلة (البيان) الصادرة عن رابطة الأدباء هناك، فواظب على الكتابة فيها ومدّها بدراساتٍ حظيت بالاهتمام والتقدير من قرّاء المجلة وهيئتها الاستشارية، وكان له حضورٌ مميزٌ ومستمرٌ لندوات رابطة الأدباء ونشاطاتها المسائية فحظي عبر مداخلاته النقدية في الأمسيات الأدبية والمحاضرات المتنوّعة بتقدير الجميع، كما نشر دراساتٍ عدّة في مجلة (الكويت) الصادرة عن وزارة الإعلام وأعدَّ لها مجموعة ملفّاتٍ نُشِرت فيها عن "عبد السلام العجيلي" و"عبد العزيز المقالح" و"سليمان الشّطي" و"علي أحمد باكثير" وآخرين، بالتعاون مع كتّاب سوريين وعرب وكويتيين برز من خلالها توجّهه القومي العروبي بأعمق صوره".

يُضيف جعفر: "جمعتني بالدكتور الداية الندوات والنشاطات المشتركة والزيارات المتبادلة وعملنا المشترك في الكويت وسورية الذي تُوِّج في جمعية النقد الأدبي في اتحاد الكتّاب العرب، وفي هيئة تحرير مجلة (الشهباء الثقافية) التي ظل ملازماً لها، فاكتشفتُ عن قرب غزارة نتاجه وتنوّعه في اللغة وعلومها، وفي الأدب وفنونه، ولا سيما شغفه بالمسرح والسينما والإذاعة، وما حصوله على جائزة الدولة التقديرية التي منحتها له وزارة الثقافة في العام 2022م إلا حقّاً مُستحقّاً تقديراً لجهوده التي بذلها في التعليم والتأليف والصحافة والإعلام وميادين الأدب والثقافة كافة".

ويرى أن أبرز ما في الداية "سعة علمه وصدره التي اقترنت بتواضعه ، وحكمته، ونأيه عن المنازعات، وتنظيمه الدقيق للوقت حتى بات قدوةً له في كثيرٍ من سجاياه فكان نِعم الأستاذ ونِعم الصديق الصدوق الوفي الذي لا يبخل ولا يخذل ولا ينمُّ ولا يسيء، والشكر والسلام له حتى يرضى، وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون.