امتهنت عائلة الإمام سابقاً الطباعة والتصوير وبيع الصحف، عبر واجهةٍ كبيرة في منتصف شارع الحلبوني، كانت تُضيف إلى مهامها أحياناً المُلخصات الجامعية والكُتب، إلى أن تحوّلت عام 1980 إلى مكتبة، حَمَلت في وقتٍ لاحق اسم "ذا النون"، وعايشت إلى اليوم أحداثاً وتقلُباتٍ كثيرة طالت عالم الكُتب، استطاعت التحايل عليها وتجاوزها، تماماً كما تفعل منذ عامين، أملاً في جذب المزيد من القرّاء الذين ربما يكون سعر الكاتب عائقاً بالنسبة لهم.

انضم "فادي الإمام" إلى والده عام 1992، واختار للمكتبة اسماً مُشتقاً من حرف النون الثري لغوياً، وتيمناً في الوقت نفسه بالنبي صاحب الاسم "يونس" عليه السلام، ومع تفرغه للعمل شهد فُروقاتٍ في نوعية الكتب والطلب عليها، ففي زمنٍ سابق لم تكن كتب التنمية البشرية متوفرة، كل ما هو موجود مجموعة عناوين مشهورة، يدور القراء في فلكها، لكن الأمر تغيّر جذرياً مع دخول وسائل التواصل الاجتماعي، مختلف التفاصيل في حياتنا، وتحكمها في سوق الكتاب، إلى درجةٍ فرضت فيها توجهاتٍ ومضامينَ ساهمت كلها في تكوين رأي عام تجاه قضايا وأفكارٍ ووقائع، يكفي نشر أسطرٍ أو نبذةٍ من كتابٍ ما، لتبدأ عملية البحث عنه.

وعلى ما سبق، أنشأ الإمام بالتعاون مع العاملين في المكتبة، صفحةً في فيسبوك، تعرض يومياً اقتباساتٍ من رواياتٍ وكتبٍ مُنوّعة، إضافةً إلى نصائح تتعلق بالقراءة وعروضٍ تُتيح للقرّاء الفوز بكتابٍ يختارونه، لكن الأهم إتاحة الإعارة والشحن إلى المحافظات بمبالغ رمزية جداً، وهما خدمتان نادراً ما توفرهما المكتبات، يقول الإمام في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "الترويج للكتب ليس سهلاً كما يظن البعض، بالنسبة لنا يهمنا التعريف بما عندنا باستمرار وإيصاله إلى من يبحثون عنه، كثرة المُعجبين والمتابعين للاقتباسات والصور ليست هدفنا، نحن نبحث عن قرّاءٍ بمعنى الكلمة".

ينصح الإمام زبائنه الباحثين عن كتبٍ مُترجمة، باختيار الصحيحة والموثوقة منها، حتى لو كان ثمنها مرتفعاً قياساً بغيرها، ويُذكّرهم بأن الكُتب التي تحظى بالدعاية لا يُشترط أن تنال إعجابهم، ومع توفر حوالي عشرين ألف عنوان في مكتبته، فهو قادرٌ على تأمين الكتاب المطلوب سريعاً، سواءً كان جديداً أم قديماً، يُضيف للمدوّنة: "الطلب على الكتب المفقودة أكثر من الموجودة، البعض يبحث عن عناوين لم تصل سورية أو طبعاتٍ قديمة، عموماً الأرشيف الغني يسمح بخدمة الزبائن، ولا مشكلة عندي في الخسارة المادية المُمكنة في سبيل تأمين كتابٍ يحتاجه أحدهم، لكن لم يعد بإمكاني طلب كميات كبيرة، فقط عدة نسخ، لأن سعر كتابٍ واحدٍ اليوم يُعادل خمسة قديماً".

معظم القرّاء الشباب يبحثون كما يقول الإمام عن كتب تطوير الذات، بغض النظر عن اسم المُؤلِف، الكل لديه الرغبة في معرفة ما تعنيه، وهل هي قادرة على تغيير الشخصية وطريقة التفكير فعلاً كما يُذكُر في الترويج لها، ثم تأتي الروايات في المرتبة الثانية، للسبب نفسه، وهناك من يهتم بِكُتب الفلسفة وأصحاب النظريات الاجتماعية التي ما زالت تُثير التساؤل والنقاش، ومن المُلاحظ أن بعضهم لا يبحث عن شيءٍ مُحدد، لذلك يُحاول توجيهه نحو عناوين يظن أنها ستكون مُفيدة ومُحفزة للقراءة، في حين ينتظر آخرون إصدارات دور نشرٍ معينة أو مُؤلفٍ ما، أما أكثر قرائه فهم من حماة ودمشق، تليهما السويداء ودرعا.

يُؤمن الإمام بأن هناك شريحة واسعة تعشق رائحة الورق وترفض القراءة إلكترونياً، ومع أن الأمر يبدو غريباً، لكن البعض يُفكر بالكتاب كالخبز تماماً، ولأجل هؤلاء وغيرهم من مُحبي الروايات تحديداً، قدّم خدمتي الإعارة والشحن، وعلى حد قوله، غالباً ما تعود الكتب بشكل جيد، كما صمم هدايا "فواصل كرتونية للقراءة"، إحداها على شكل فراشة، والثانية مُجسم خشبي لكلمة "اقرأ" ترافق مع حملةٍ للتشجيع على المطالعة، يقول عنهما: بحثتُ عن أفكارٍ تُشبه ما عندنا في "ذا النون"، أمنيتي الكبرى أن يكون عندنا مكتبات صغيرة في الشوارع تسمح بوضع كتابٍ واستعارة آخر دون مقابل.

يقول الإمام إن إغلاق عدة مكتبات عريقة خلال الأعوام الأخيرة، يعود أولاً إلى ارتفاع سعر الكتاب، لكنه قرارٌ خاطئ برأيه، لا يلوم أصحابه، لأن مهنتهم تحتاج إلى صبرٍ طويل ورأس مالٍ كبير، وهو ما يذهب إليه أيضاً البائع في المكتبة "حسين حاج حسن"، مُشيراً إلى أن "ذا النون" تُحاول باستمرار إيجاد حلولٍ مُناسبة قدر الإمكان، للتحفيز على القراءة، من أكثرها جدوى، فكرة الإعارة التي تفاعل معها زبائن من عمر 10 سنوات إلى 70 سنة، عبر صفحة فيسبوك التي تعرض باستمرار لأحدث الإصدارات، وغيرها من القديمة المتوفرة.

من زبائن "ذا النون" التقينا "مروة أبو حاجب" طالبة جامعية في قسم علم النفس، تعرّفت على المكتبة أثناء بحثها عن كتابٍ يدعم المنهاج الجامعي، ويبدو أنه كان بداية لمشوارٍ طويل، تنوّعت فيه اهتماماتها بين الروايات والخيال العلمي والأبحاث النفسية، وهي تُفضل شراء الكتاب مهما كان سعره، على أمل أن يكون عندها مكتبة خاصة تعود إليها متى شاءت، في حين استفادت "ماريا الأحمد" عن طريق فيسبوك من إمكانية الاستعارة لنوعيةٍ مُحددة من الكتب، وهي التي لن تحتاج غالباً للعودة إليها كما تقول للمدوّنة، لِتشتري ما يتعلّق بالتربية والتعامل مع الأطفال كونها مُدرِّسة للمرحلة الابتدائية، ويهمها الاحتفاظ بمراجع وكتب في هذا المجال.