كانَ ذلك في 9/8/ 2019، عندما انهار جزءٌ من سور دمشق القديمة في حي الفرايين القريب من منطقة باب توما، ليكون الأخير المُسجّل لدى محافظة دمشق، والمُضاف بطبيعة الحال إلى سلسلة حوادث تعرّض لها السور منذ إنشائه، بدأت بالاقتتال على حدوده وإهماله فترات طويلة عبر التاريخ، مع مساهمة عوامل طبيعية كالزلازل والأمطار وانجراف التربة، إضافةً إلى تخريبه والتعدي عليه في البناء والحفريات ومد خطوط الصرف الصحي، كلها أسبابٌ أدت لتهدم بعض أجزاء السور، إلى أن استحال اليوم رمزاً لعهودٍ مضت، أبوابه نقاط علّام، جذبت السياح قبل سنوات الحرب، وفي الوقت ذاته ما زال القاطنون بجوارها يُشبعونها استهانةً واستباحة.

بعد الانهيار

دعّمت المحافظة موقع الانهيار المذكور بالتنسيق مع نقابة المهندسين "فرع دمشق"، ووقعت عقداً بين دائرة آثار مدينة دمشق وأحد المتبرعين من المجتمع الأهلي لتنفيذ أعمال الترميم على نفقته. ولم تقتصر الإجراءات على هذه النقاط، تبعاً لما يقوله معاون مدير دمشق القديمة المهندس "أدهم القوصي" في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن"، بل تضمنت أيضاً تشكيل لجنة، أجرت تقييماً فورياً لواقع السور من منطقة باب السلام إلى باب توما مع التدعيم اللازم، إلى جانب دراسة واقع الإشغالات السكنية المحيطة والخطورة الإنشائية الناتجة عن الانهيار، كما كلّفت الشركة العامة للصرف الصحي بتنفيذ مجرورٍ بديل في حي الجورة القريب من حي الفرايين.

عودةٌ إلى دمشق

يتوازى البحث في تاريخ سور دمشق القديمة، مع عودةٍ إلى نشوء المدينة نفسها، كذلك ترجع إليها مُختلف التطورات التي مرّ بها السور وما يضمه من أبواب. وإذا كان الشائع عن بنائه يعود إلى مراحل تاريخية كانت فيها دمشق تحت حكم الرومان الذين أقاموه تحصيناً للمدينة، إلّا أنّ ما تقوله بعض المصادر، يذهب إلى زمنٍ مُوغلٍ في القِدم، من بينها كتاب "دمشق أقدم عاصمة في العالم"، جمع وإعداد الباحث "حسن زكي الصواف"، صادر عن دار قتيبة، وفيه تأكيدٌ على أن دمشق نشأت قبل العهد الآرامي، وقد عُثر في بعض التنقيبات الأثرية عام 1965 على فخارٍ يرجع إلى عهد البرونز القديم أي إلى حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد.

عصورٌ مُختلفة

يُوضح الباحث كيف أصبحت دمشق إحدى المدن العشر الأكثر أهمية في العالم الروماني، في الوقوف ضد نفوذ الأنباط في الجنوب، ومن آثار تلك الفترة، معبد جوبيتر حول الجامع الأموي وبعض أبواب دمشق وأجزاء من سورها؛ ويستحضر ما يقوله المؤرخ والمستشرق الفرنسي "سوفاجيه"، بأن المدينة كانت مُحاطة آنذاك بسورٍ مستطيل طوله 1500 متر وعرضه 750 متراً، تخترقه 7 أبواب لكل منها اسم: باب شرقي، باب الجابية، باب كيسان، الباب الصغير، باب توما، باب الجنيق، باب الفراديس.

لاحقاً، عندما دخل العباسيون دمشق، تعرّض السور للتخريب وظلّ مهملاً زمناً طويلاً، إلى أن عاد الاهتمام به، في العصور السلجوقية والأيوبية والمملوكية، يقول الكتاب: "من خلال استعراض جدران السور والقلعة وسوالف الأبواب، نلاحظ عدداً من النقوش الكتابية التوثيقية التي تُشير إلى أمرٍ بعمارةٍ أو ترميمٍ أو تجديدٍ".

مُنجزاتٌ دفاعية

ما تجب الإشارة إليه، هو أن جميع المنشآت العمرانية، أُقيمت بما يتناسب مع أنواع الأسلحة وطرق الدفاع الجديدة المتوفرة، وفي عهد "نور الدين الشهيد"، ظهرت منجزاتٌ دفاعية تتعلق بالأبواب خاصةً، تحدثت عنها النقوش المذكورة من خلال 21 نصاً، جاء فيها: "إقامة سويقة عند كل باب، لكي يُموّن أهل المنطقة أيام الحصار، تزويد كل باب بمسجدٍ خاصٍ بالحي، وعلى الباب مئذنة يمكن الاستفادة منها في عملية المراقبة، سد باب كيسان وإقامة باب السلامة وفتحه، فتح أبواب جديدة مثل بابي النصر والفرج، والأخير بابٌ مزدوجاً غايته تضليل العدو الداخل إلى المدينة"، ومع دخول العثمانيين دمشق، تهدمت وزالت أجزاءٌ من السور والأبواب والقلعة، وظهرت أبنيةٌ جديدةٌ على حسابها.

الدولة والناس

إلى جانب ارتباط السور والأبواب، من حيث الوجود والفتح والإغلاق بأمن الدولة ومصلحة الناس، يقول الكاتب: "كم خرج منها الشبان والرجال للقاء العدو، وكم تزاحم الأطفال والشيوخ وراء الأبواب في هرج ودعاء، أما عندما لم تعد هذه الأبواب والسور وسيلةً دفاعيةً ناجحة فقد لحق بها الإهمال والخراب، ونقص الكثير من أجزائها، واستمر ذلك الوضع منذ عام 1830م وحتى فترةٍ تاريخيةٍ قريبة، إلى أن بدأت الدولة في الاهتمام بها".

أجزاء السور

خلال المراحل السابقة، كان السور خطاً دفاعياً مرات ونقطة انطلاقٍ للهجوم مراتٍ أخرى، لذلك واستناداً إلى ما وردَ آنفاً، طرأت عليه تحولاتٌ كثيرة، إلى أن استقر بأبعاده الحالية، والتي وثّقتها لتكون مرجعية، وزارة الإدارة المحلية بالتعاون مع المجموعة الأوروبية عام 2010، كما يقول للمدوّنة رئيس دائرة التوثيق والدراسات في مديرية دمشق القديمة المهندس "نعيم زابيطة"، بناءً على خرائط وضعها "سوفاجيه" لدمشق، فيها شرحٌ عن الأجزاء المرئية من السور، يتضمن معلوماتٍ تاريخية وتفصيلاً لتكوين نسيجها الحجري، وشكل الحجر وأبعاده، منها جزءٌ بين بابي الجابية والصغير العائدين للعهد الروماني، ذو جذورٍ رومانية الأصل، وترميمٍ قديم يعود للعهود الإسلامية، فيه ثلاثة أبراج، ويتكون من صفوفٍ حجريةٍ منتظمة أفقية، فيها حشوات طينية مكسية بطبقة من اللبن تصل سماكتها إلى 3 سم، الحجر بازلتي أسود وذو شكل مُتغير من شبه الدائري إلى شبه المستطيل.