عام 1992 عُرِض مسلسل (أيام شامية) للكاتب أكرم شريم والمخرج الراحل بسام الملا، وعلى بساطة حكايته آنذاك، حيث يضطر (محمود الفوّال) لرهن شعراتٍ من شواربه مقابل مبلغٍ من المال، حقق العمل شهرةً كبيرة، محلياً وعربياً، وعدّ أساساً، لما سُميَّ لاحقاً (دراما البيئة الشامية). هنا تحديداً، يبدأ الحديث عن (حسان أبو عياش)، كمُؤسسٍ وشريكٍ حقيقي، تُحسب له نجاحاتٌ غير مسبوقة، حتى استحق أن يكون (شيخ كار) مُهندسي الديكور في سورية، وهو الحاضر أيضاً، في أعمالٍ اكتسبت صفة الجماهيرية ببراعة، منها (الخوالي)، (ليالي الصالحية)، (باب الحارة).

يبني أبو عياش، حاراتٍ وشوارع وأزقّة، لا فرق عنده بين الأعمدة الكبيرة، والتفاصيل على غطاء طاولة، كل شيء مدروسٌ ومُراقب، يجب أن تكون الحكاية مُقنعة ومُمتعة، بكل ما فيها، في الحارة والقهوة وحمام السوق، في الليوان وبيت (المونة) والسطح الملاصق لأسطح الجيران، في صباحات العيد وليالي رمضان ورحلة الحج، لأن الديكور، ليس زينةً أو مجرّد عامل جذب، بل هو المكان، كما يقول. وفي رصيده، بعيداً عن الدراما الشامية، (الخشخاش)، (حمام القيشاني)، (العبابيد)، (نزار قباني)، (سوق الحرير)، (أبو زيد الهلالي)، وفي المسرح (ضيعة تشرين)، (كاسك يا وطن)، والكثير غيرها، خلال 55 عاماً من العمل المُستمر، ويستعد حالياً للمشاركة في مسلسل (زقاق الجن) للمخرج تامر اسحاق.

عن البدايات

درس (حسان أبو عياش/ السويداء 1943)، هندسة الديكور، في كلية الفنون الجميلة في دمشق، لكنه حين بدأ العمل في التلفزيون السوري في بداية التأسيس، بالأبيض والأسود عام 1969، لم يكن لديه كما بقية العاملين، أي فكرة عن الديكور التلفزيوني، ولم تكن هناك بعثات خارجية للتعرّف على ما لدى الآخرين، فكان العمل خلال السنوات العشر الأولى بسيطاً. يقول أبو عياش في حديث إلى "مدوّنة وطن": "كنا نصمم ديكوراتٍ شبيهة بالمخصصة للمسرح، مستفيدين من الحركة المسرحية النشطة في تلك المرحلة، عملتُ لاحقاً في ديكورات المسلسلات، خلفيات الأخبار، برامج منوعات، الأغاني، المهرجانات، كان العمل محصوراً في الاستديو فقط، إلى أن بدأ التصوير الخارجي عام 1990".

حسان أبو عياش

اهتمام أبو عياش بالرسم واعتياده ترجمة أفكاره على الورق، ساعده في عمله، لكن تصميم الديكور، يعتمد أولاً على البحث، وعلى حد قوله، لا يكتفي المهندس بالحصول على المعلومات وتخزينها إنما يعيد خلقها مجدداً، على شكل أجواء وعلاقات، فعندما طُلب منه التحضير لمسلسل (العبابيد)، بحثَ في كل ما يتعلق بـ (زنوبيا، تدمر، روما، الآثار، الحرب الحاصلة في تلك المرحلة). يضيف: "عادةً أقرأ النص، أفهم العلاقات والأماكن والحكايات فيه، أرسم (كروكيات) ومناظير، أعرضها للمخرج، نتناقش إلى أن نتفق، أصمم الديكور بشكلٍ يلائم النص، ليس ضرورياً نقل الواقع كما هو، يمكن الإضافة أو الحذف أو غيرهما من التعديلات، بما يخدم العلاقات بين الأمكنة والأشخاص في العمل".

البيئة الشامية

في ديكورات مسلسلات البيئة الشامية، يبني أبو عياش مع فريقه، مدناً كاملة، أو كما يقول، "أتخيل مكاناً وأصنعه"، وهو ما فعله في (باب الحارة)، (حارة القبة)، (جوقة عزيزة)، بعضها استغرق 3 أشهر لإنجازه. يقول للمدوّنة: "الحارة في دمشق تختلف عن نظيرتها في حلب وحماة وبقية المحافظات، لذلك يجب المحافظة على الطراز العام لها، ومع تكرار العمل في البيئة الشامية، يجب أن يكون لكل حارة خصوصيتها، مثلما رسم آلاف الفنانين دمشق القديمة، كلٌ منهم بأسلوبه وطريقته، في كل مرة أتخيل نفسي أرسمها، بما يتفق مع النص الجديد، أُقدم رؤيتي الخاصة بما يخدم العمل، كأن أضع سبيل ماء أو جامعاً، حتى لو لم يكونا موجودين في النص، لكنهما يُلائمان الحكاية".

مسلسل حارة القبة

يستعيد مهندس الديكور مشواره الغني مع المخرج الراحل بسام الملا، وهما الحاضران معاً دوماً، في أهم الأعمال التي تحتفظ بها الذاكرة الشعبية المحلية. يقول: "الراحل الملا، خدمني وخدمته، كان يُحب إظهار الديكور خلال التصوير، في لقطات عامة استعراضية دون ممثلين، بعض المخرجين لديهم ثقافة أدبية، يهتمون بتفاصيل الوجه وحركات الممثل، لكن الراحل امتلك ثقافةً بصرية، اهتم بالمكان والشكل واللون، فالكاميرا مثلاً، كانت ترافق المختار والقبضاي حين يسيران في الحارة ويسلمان على الجميع، ليتعرف الجمهور على تفاصيل المكان، وهذا ما خدمته به، صنعنا حالةً لم تكن مسبوقة في درامانا".

في (أيام شامية) مثلاً، كانت الحكاية بسيطة جداً، لذلك رفضها عدة مخرجين، وحين بدأ الملا العمل عليها، طلب من أبو عياش، ابتكار مكانٍ على قدرٍ من الأهمية والجمال، فتخيّل الحارة في ذهنه، ثم حوّلها إلى مخططات ورسوم، وبدأ بالتنفيذ، بالتعاون مع أربعة مهندسين آخرين وفريق من العمال، رسموا البلاط وزخارف الجدران بأيديهم. وفي (باب الحارة)، بُنيت حارة متضمنة محلاتٍ عديدة، منها الحلاق والبقال وبائع الفول، على طريق المطار في الغوطة الشرقية، لكنها تعرضت لأضرارٍ كبيرة خلال الحرب، فأُعيد بناؤها في (استديو الفيصل)، في منطقة يعفور. أما البيوت العربية فالقانون يمنع التعديلات فيها، لكن يمكن إضاءة لوحات الليوان أو إضافة عريشة بجانب البحرة أو نباتات مناسبة، من حيث الفصل والنوع، فالحديثة أو المستوردة لا يمكن إدخالها في عمل تاريخي.

منظور مسلسل زقاق الجن

يحكي لنا المهندس عن مدينةٍ سعودية بناها في سورية، فترة التسعينيات، على الطراز النجدي، لتصوير مسلسلٍ مُوجهٍ للخليج، اسمه (أي بني)، لكن عدة شركات، أجرت تعديلاتٍ بسيطة على المكان، وصورت فيه مسلسلاتٍ عن البيئة الشامية، وهو أمرٌ غير مقبول بالنسبة له، كما يرفض العمل أيضاً في أي ديكور بناه غيره، يُوضح: "الديكور يحتاج مالاً، والشركات الضعيفة لا قدرة لديها على الدفع كل مرة، بعض الأعمال تكلّف مبالغ ضخمة، في (حارة القبة) مثلاً، كلّف الديكور 500 مليون ليرة، هناك شركات تستغني عن الديكور لصالح التصوير في البيوت والأماكن القديمة".

قيمة الديكور

لا يُمانع أبو عياش التعديل على ديكوراته بالتشاور مع المخرج، لكن التغيير يحدث على مضض أحياناً، إذا لم يتناسب مع البيئة، وهو أمرٌ يحدث مع ما يُسمى اليوم (Art Director)، للحصول على لونٍ مُوحد للعمل (اللونية العامة)، يقول: "العمل التلفزيوني يضم مجموعة جهات تعمل مع بعضها، آراؤها وثقافاتها وتجاربها مختلفة، هذا يتسبب بصعوباتٍ، لكن في المحصلة، يجب أن أخدم مهنتي، المهن الفنية أحياناً لا تبدو واضحة، بعضهم يقترح وضع لوحة أو قطعة أثاث ويعتبر نفسه مهندس ديكور، البعض لديه ذوق فني لكنه ليس قادراً على بناء عمارة بنسب وارتفاعات وأبعاد صحيحة".

وفي السياق ذاته، يُؤكد أن الديكور عنصرٌ مساعد وجزءٌ من مجموعة قيم، تجتمع في المسلسل، وهو أول ما يلفت النظر بعد الممثلين، المكان عموماً يبقى في ذهن المشاهد، لأنه يتكامل مع الحالة الدرامية. وفي كل ما اشتغله عن البيئة، كان حريصاً على أن يكون المُشاهد شريكاً، ففي السنوات الأخيرة، كثرت هذه النوعية من الأعمال، وأصبح لها متابعون ينتظرونها، لذلك تكررت وجوه الممثلين وتشابهت الأحداث واللهجة، لكن الديكور المميز يسمح بإظهار التباين بينها، بعض المسلسلات، والكلام له، تُعرف من خلال ديكوراتها، المُشاهد يعرف المكان الذي يقصده الممثل بمجرد توجهه نحو اليمين أو اليسار، دون الحاجة إلى قول ذلك بالكلمات.

مهنة مائعة

ينصح أبو عياش أبناءه بترك المهنة، والبحث عن غيرها، لأن الوسط الفني مليء بالصراعات، ولأن هندسة الديكور التلفزيوني، مهنة غير حقيقية، يقول: "لا يوجد أي جهة في الدولة معنية بتنظيم عملنا، مهنة مائعة، لا أحد يحمي حقوقنا، لذلك وصلت أجورنا خلال السنوات الأخيرة إلى ربع ما كنا نتقاضاه سابقاً، نتعرض نحن والعمال لإصابات وكسور، أحد العمال تعرض لصعقة كهربائية، توفي على إثرها، ولم تحصل عائلته على تعويضٍ يستحق الذكر، المهنة بلا ضوابط بسبب التنوع فيها، شركات وأعمال ومخرجين، الأمر ينسحب على العاملين في الأزياء والإضاءة، يجب أن يكون هناك نقابة للمهن الدرامية مستقلة عن التمثيل، مرجعية نعود لها".

الإشكاليات امتدت إلى مواد البناء، حيث يصعب الحصول على الخشب المضغوط والفلين الأبيض وورق الجدران، كما يُكلّف استيرادها مبالغ كبيرة. ويبقى الأهم، في بناء مدينة تلفزيونية، يقول أبو عياش: "على الرغم من الشهرة والطلب على الإنتاج التلفزيوني السوري، لم تُبادر أي جهة حتى اليوم لبناء استديوهات ضخمة، تُتيح خدمات مختلفة لشركات الإنتاج، أهمها حماية الكوادر جميعها، من العوامل الجوية، كالعواصف والأمطار التي هدمت الديكور أكثر من مرة، وأرهقت العاملين".

(حارة القبة)

صمم (حسان أبو عياش)، ديكور مسلسل (حارة القبة) في جزئيه الأول والثاني، كتابة أسامة كوكش وإخراج رشا شربتجي. وعن رأيه بالديكور، وهل خدم الحكاية المكتوبة، بالشكل الذي أراده وتخيله، قال كوكش لـ "مدوّنة وطن": "راضٍ جداً عما شاهدته، المهندس حسان أبو عياش، متمرّسٌ في هذا النوع من الأعمال، كان من المهم في المسلسل وجود شبكة حارات معقّدة وأبواب كثيرة، كونها تخدم الفكرة، كالعادة أبدع في صنع هذه الحارات، أفضل مما كان في خيالي، ومع أن ديكور الحارات الشامية شبه مُوحد، كلها تشبه بعضها، إلى جانب وجود ثوابت مُكرّسة، منها القهوة في مركز الحارة وحولها مجموعة من الدكاكين، لكنه يستطيع دائماً إظهار خصوصية وشكل مختلف، حتى أن الحارة التي بناها في (حارة القبة) جديدة بكل تفاصيلها".