ليست هي المرة الأولى التي تُحدِثُ فيها أعمال الفنان "أسعد زكاري" 1930- 2020، جدلاً واهتماماً يتجاوزان حدود المحلية، وليس غريباً أيضاً أن تصل شهرته حدود العالمية بعد أن حققت أعماله من مجموعة "عنتر وعبلة"، نجاحاً لافتاً في مزاد "سوثبيز" في لندن مؤخراً، تحت عنوان "فنون القرن العشرين/ الشرق الأوسط"، والتي ضمّت 83 عملاً فنياً للفنانين الأكثر رواجاً من أصولٍ "عربية، شمال أفريقية، إيرانية، تركية".

يُنقل عن الراحل قوله "أنا لم أُولد في برلين أو باريس، أنا وُلدت في دمشق، لذا يجب أن أعمل فناً يمت بصلةٍ للبلد التي أعيش فيها"، وهذا ما عمل على تحقيقه بعد سنواتٍ، تنوّعت تجاربه فيها، بين الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية وغيرهما، ثم كانت عودته إلى التراث الشعبي وفنون الخط العربي، مُستلهماً منهما مفرداتٍ تاريخيةً وخصوصيةً عربيةً شرقيةً، مكّنته من العمل على ما هو قديم، بأسلوبٍ مُغاير، أضاف إلى شهرته وخبرته.

قبل عامٍ تقريباً، أعدّ "زياد كامل"، وهو صاحب مجموعة فنية، ومُهتم بالتشكيل، كتاباً عن زكاري، حَمَلَ اسمه عنواناً، تضمن بعض لوحاته وصوراً وثائقية لمراحل دراسته ومعارضه، وعدة مقالات كتبها عنه فنانون ونقّاد كبار، بعد أن أطلعه على ذكرياته وأوراقه القديمة وسيرة حياته. يقول كامل في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "التقيتُه في منزله، في حي الروضة الدمشقي، شخصيته الغريبة وأعماله المعلقة على الجدران، أوراقه ودراساته الخطية، كل شيءٍ أثار فضولي للتعرف عليه أكثر، ترددت إليه في فتراتٍ متقطعة، على مدى خمس سنوات".

الفنان الراحل أسعد زكاري ‫‬

يُضيف: "في البداية اعتقدتُ أنه كان يرسم في أوقات الفراغ، إلى أن دخلت إحدى الغرف ورأيتُ أعمالاً كثيرة موقعة بـ ZOK ، أعمالٌ بمراحل متعددة منذ الخمسينيات، هذا الرجل التسعيني المهندس، صاحب غاليري أوغاريت سابقاً، صرتُ أتردد إليه بصورةٍ شبه يومية، من جهته، وثق بي، وأدرك أنني آمنت بتجربته، فقال لي (أنا بعرف بشو عم تفكر يا صبي)، حدث ذلك قبل شهر من وفاته، وكأنّ القدر جمعنا، لأُخرج خلاصة نتاجه الفني من العتمة إلى النور".

وُلِد "أسعد زكاري" في دمشق، حصل على بكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة الإسكندرية في مصر 1958، أثناء دراسته الجامعية -كما يقول الكتاب- كان يواظب على تمارين الرسم من الموديلات الحية، لدى معهد "بيكلي" الإيطالي في الإسكندرية، وفيها درس أيضاً فن التصوير الزيتي في مرسم "سيف وانلي"، ما أهله لإقامة معرضين ثنائيين في صالة الصداقة الفرنسية في المدينة نفسها 1955 و1956، وفي سورية كان معرضه الأول 1959 في المتحف الوطني في دمشق، في رصيده الجائزة الثالثة في مسابقة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب للفنانين السوريين 1961، والجائزة الثالثة للتصوير الزيتي في مسابقة صالون القاهرة 1959، ولا تزال لوحته موجودة في متحف القاهرة.

أعمال الراحل في مزاد سوثبيز في لندن

ينقل صاحب الكتاب شرحاً كتبه الراحل عن أعماله، يقول فيه: "منذ البداية ظللتُ أبحثُ عن إعطاء صورةٍ واضحة ومتطورة للتراث الشعبي، بدأتُ بدراسة الأشكال التي كان يستخدمها فنانونا في الأرابيسك والخط العربي بجميع مدارسه، وانتقيتُ منها البسيط، لكن البداية لم تكن بالسهولة التي كنت أتصورها، إذ وجب عليّ مثلاً لإعطاء بطولات "عنترة بن شداد" صورةً تضاهي أشعاره عنها، عمل كروكيات عديدة للحصان في جميع حركاته، كذلك للوجوه وحركات الأجسام والملابس، ويجب أن يُمثّل كل ذلك زمان الحدث، المواضيع كثيرة، تتجه جميعها نحو إمكانية تشكيل لوحة فنية، فيها روح الفن الشعبي، مع التطوير اللازم لإمكانية الوقوف بشخصية مفردة تُعطي الأعمال قيمةً فنيةً".

يستعيد الفنان "يوسف عبد لكي"، جانباً من مشوار الراحل في عوالم التراث، بعد عشرين عاماً، تنقّل خلالها بين سورية وألمانيا وفرنسا، خفّ فيها نشاطه الفني بسبب العمل وظروف المعيشة، إلى أن كان معرضه في هذا المجال، في المركز الثقافي السوري في باريس 1989. يقول في تقديمه للكتاب، وهو المشرف على إعداده: "عاد زكاري للإنتاج الفني مرتكزاً على تجربة الفنان الفطري "أبو صبحي التيناوي" والفنان المصري "سعد كامل"، ومن هذا المنطلق المحلي أخذ في إزاحة كل ما تعلمه خلال عقود، والذهاب إلى مصادر الفن الشعبي لا لتكريسها بل للعمل على شحنها بطاقةٍ جديدة".

من أعمال الفنان الراحل أسعد زكاري

يُشير عبد لكي إلى أن الراحل عمل على خطين في المنحى الذي كرّس له سنوات حياته الأخيرة، الأول هو: "الخط، إذ راح يرسم العناصر الشعبية المعروفة، بشكلٍ عفوي، فزاد على عفويتها الأصلية، عفوية خطوطه الراقصة بعيداً عن أحكام اللوحة الحديثة، والثاني اللون، حيث عدّ اللوحة ميداناً فسيحاً للتجريب، بعيداً عن توضيحية الرسوم الشعبية، هكذا أصبحت اللوحة بقدر انتمائها الى فنوننا الشعبية، منتميةً الى نزعاتٍ حديثة، جريئة، تجريبية، لا تقف عند حدٍ مرسوم، بل تنطلق إلى فضاء الاحتفال بفرح الألوان، لتصنع في النهاية لوحة زكاري المختلفة عن الفنانين الذين عملوا في التيار نفسه، ولتطبع ببصمتها الخاصة هذا التيار الأخّاذ في التجربة التشكيلية العربية".

في سنواته الأخيرة، والكلام للزميل والناقد "أديب مخزوم"، كان زكاري "بمنزلة الزاهد المعتكف على فنه في منزله الدمشقي، بعيداً عن الأضواء، قبل أن يرحل بصمت، وبتعتيمٍ إعلاميٍّ مُخجل، شأنه في ذلك شأن العديد من كبار مبدعينا، هو الذي كان مأخوذاً ببريق التراث الشعبي، والأجواء الأرابيسكية، والعفوية اللونية، التي ساعدته على تحقيق مظاهر الانفلات المبكر من قيود المنظور التسجيلي التقليدي، بعد أن مَرّ بمرحلةٍ كلاسيكية وسوريالية، وصولاً إلى أقصى حدود الانفعال اللوني الصارخ، إلا أنه سرعان ما كان يعود إلى العقلنة، التي تتوازى مع العفوية".

يرى مخزوم أن رسومات "أسعد زكاري"، تأتي خارج التصنيفات المدرسية الحديثة، فقد كان يستلهم "ما تكرر في الكتب الأدبية من قصصٍ تطرح موضوعات الحكاية الشعبية البطولية، وذلك للوصول إلى حالةٍ توفيقية بين نبض الحداثة، ونبض البطولات التي وصلت إلى حدود الأسطورة، فالتكوين المرسوم في لوحاته تسكنه روح الشعر والحكاية الشعبية والبطولة، ضمن رؤيةٍ فنيةٍ حديثة وخاصة، فيها هندسة وعفوية في وقتٍ واحد".