يتفق الباحثون في الآثار على أن "دمشق" هي من أقدم المدن في تاريخ البشرية، حيث تركت الحضارات التي مرت عليها الكثير من المعالم والمواقع الأثرية لكلٍ منها قصص وحكايات، إضافة إلى ذلك يحيطها سور بُني بأحجارٍ بيضاء كبيرة، لها سبعة أبواب رئيسية محكمة، ورغم تعرض المدينة عبر التاريخ إلى العديد من الحروب والغزوات بقيّ الكثير من هذه المعالم وجذبت أنظار الرحالة والباحثين منذ الأزل.

أسطورة وحضارة

يذكر "ياقوت الحموي" في "معجم البلدان" أن أول حائط وضع في الأرض بعد الطوفان هو حائط "دمشق"، وأيضاً هناك رسامون مكثوا شهوراً في "دمشق" ليجسدوا في لوحاتهم مدينة تتمتع بالعديد من المعالم الأثرية والتاريخية، ولا سيّما أبوابها التي كانت موضوع الفنان التشكيلي الشاب "ميلاد المعرّي"، ليقدمها برؤيته الخاصة من خلال مشروعه "أبواب دمشق... أسطورة وحضارة"، حيث يقول لمدوّنة وطن :"esyria" «اخترت هذا الموضوع كمشروع تخرّج بسبب حبي الشديد لمدينة "دمشق"، والإرث الكبير الذي تحتضنه وأيضاً من مبدأ أهمية الحفاظ على التراث الذي يعدُّ ذاكرة الشعوب، ولا سيّما في ظل هذه الحرب البشعة التي تتعرض لها المنطقة ومحاولة طمس حضارتها، ولا بدّ من الاهتمام والتدوين التراثي، وينبغي أن تكون هذه رسالتنا جميعاً وكل واحد من مكانه طالما الفنان هو مرآة عصره وواجهة حضارية لبلاده».

حشد الفنان "ميلاد المعرّي" في رسوماته لأبواب دمشق تفاصيل صغيرة ومنمنمات دقيقة، ليقترب من الواقعية إلى حد الفوتوغرافية، غير أنه بالمقابل، يمنح هذه الواقعية التسجيلية حيويّة خاصة لا نراها لدى غيره من الفنانين السوريين الشباب الذين تبنوا هذه الصياغة، وتمكن من تجاوز الجمود الذي يسيطر في العادة على الصيغة الموجودة في هذا الأسلوب التصويري

حكايات جذابة

لا شكّ بأن "دمشق" كانت وما زالت محطة للكثير من الفنانين المحليين والعالميين، حيث تطرقوا إليها بأساليب مختلفة كالواقعية والتجريد والمنمنمات، وهنا يقول: «جاء عملي خلال هذا الموضوع أقرب إلى الواقعية لأنها لغة تشكيلية كونها باعتقادي الأقرب للناس ويفهمها أكبر شريحة من المجتمع، وفي الحقيقة "أبواب دمشق" موضوع جذاب لأنه يتضمن ثلاث حكايات في حكاية واحدة، تجسد أبواب هذه المدينة المرسومة على سورها العظيم بعناية، وقد فتحت وفقاً للكواكب وعلاقتها بالآلهة اليونانية، ولم يتطرق أحد إلى الأبواب من خلال هذه المواضيع الثلاثة وخاصة في الفن التشكيلي، وهذا أحد الأسباب الذي جعلني أفكر بها، فضلاً عن كونها من أهم المعالم الثقافية والأثرية الدمشقية، ولدينا خوف مشروع عليها كونها تبتعد شيئاَ فشيئاً عن ذاكرة الأجيال الجديدة وبغض النظر عن الأسطورة فهي جزء من تراثنا وثقافتنا كسوريين ولا بدّ أن نخلدها في أعمالنا».

باب شرقي من منظور "المعرّي"

الأبواب السبعة

باب توما

اختار "المعرّي" سبعة أبواب وهي الأساسية التي فتحت في القرن الأول قبل الميلاد، ليجسدها في لوحاته من خلال مزج ما بين الكوكب الذي نقش من الحجر على كل باب والأسطورة، ويتابع حديثه: «رسمت "الباب الشرقي" الذي يعتقد بأنه بنيّ في نهاية القرن الثاني الميلادي وله أسماء أخرى "الشمس، هليوس، سول" ويعلوه نقش حجري مرسومة عليه صورة الشمس، وينسب إلى العهد الروماني، وأيضاً "باب توما" واسمه الأصلي "فينوس" أي الزهرة، وهي إله الحب والجمال عند الرومان وسميت بالإغريقية "أفروديت"، وبدّل اسمه إلى "توما" في فترة انتشار الدين المسيحي نسبة للقديس "توما"، وتوجد عليه كتابات باليونانية وهذا دليل على أنه تم إنشاؤه ما قبل فترة الرومان، وكما دونت باب "كيسان"، اسمه الأصلي "ساترن" بمعنى "زحل" نسبة إلى رب الزراعة والزمن بالمعتقد اليوناني».

الفراديس والإله "هرمس"

وعن باب "الفراديس" الذي رسمه "ميلاد المعرّي" خلال مشروعه يقول: «وسميّ أيضاً في فترات متعاقبة بباب "عطارد" يرمز إلى الإله "هرمس"، ويقع حالياً في حيّ "العمارة" وسميّ "الفراديس" التي تعني بلغة الروم البساتين، حيث كانت تقابله بساتين خضراء، أما باب "الجابية" وبنيّ على أنقاض باب آرامي، وينسب إلى كوكب المريخ، إله الحرب آريس عند اليونان وسميّ نسبة إلى قرية "الجابية" وتقع قرب "دمشق"، وأخيراً باب "الصغير" الذي تعاقبت عليه الحضارات، حيث شيّد على أنقاض باب يوناني ومن ثم على أنقاض باب آرامي، وينسب إلى الإله "زيوس" إله الأمطار والرياح وأطلق عليه العرب اسم الصغير كونه أصغر أبواب "دمشق"».

باب كيسان

تجاوز الجمود

يقول "طه المحمد" المهتم بالفن التشكيلي وصاحب موقع "إيمار": «حشد الفنان "ميلاد المعرّي" في رسوماته لأبواب دمشق تفاصيل صغيرة ومنمنمات دقيقة، ليقترب من الواقعية إلى حد الفوتوغرافية، غير أنه بالمقابل، يمنح هذه الواقعية التسجيلية حيويّة خاصة لا نراها لدى غيره من الفنانين السوريين الشباب الذين تبنوا هذه الصياغة، وتمكن من تجاوز الجمود الذي يسيطر في العادة على الصيغة الموجودة في هذا الأسلوب التصويري».

"ميلاد المعرّي" من مواليد "دمشق" عام 1997، تخرج من كلية الفنون الجميلة عام 2021.