بناء المدرسة العادلية الكبرى يعدُّ من أجمل فنون العمارة الأيوبية من حيث التخطيط والهندسة وشكل البناء ورصانته وبساطة زخارفه، بالإضافة إلى موقع المدرسة المتميز في قلب دمشق، فهي بمنزلة المدرسة التي اتخذت من طابع البناء الدمشقي القديم نموذجاً تميّز بالقاعات الحجرية المنحوتة وإيوان التدريس الخارجي والفسحات السماوية، وكان لها دور بارز في إيصال الفكر والمعرفة للناس، حيث كان العلم يشكّل عاملاً مهماً للنهوض بالمجتمعات ويعزز حاضرها ويرسم مستقبلها.
تاريخُ المدرسة
ضمّ حي باب البريد في "دمشق" معالم وشواهد على ماضي المدينة العريق والحافل، كجامع بني أمية وضريح صلاح الدين والمدرسة الظاهرية وآثار معمارية أثرية كثيرة في المدينة القديمة، إضافة إلى المدرسة العادلية مقرّ المجمع العلمي العربي.
تقول الدكتورة الآثارية "ابتسام ديوب" اختصاص آثار الشرق القديم والأستاذة في جامعة دمشق" في حديثها لموقع مدوّنة وطن، إن المدرسة بدأ بإنشائها الملك "نور الدين بن زنكي" ثم أكملها الملك العادل شقيق الملك "صلاح الدين الأيوبي"، فأرادها مدرسة ضخمة جامعة، لكن المنية وافته قبل إتمام عمله فقام ابنه "الملك المعظم" بإتمام عمارتها ونقل جثمان والده إليها وأودعه قبة هذه المدرسة.
وتضيف: كانت المدرسة العادلية قبلة الأعلام والعلماء، ومثوى أفاضل المؤلفين يدرُسون فيها ويدرٍّسون ويؤلفون، حيث كان للملك المعظم دورٌ بارزٌ في نشر المعرفة من خلال هذه المدرسة، فشجع الناس على الحفظ وإتقان العلوم والاهتمام بالتدريس والترجمة والتأليف، حتى تم تأليف معجم عربي شامل، ضم كتب اللغة المدفونة بين طياتها فأنشأ في هذه المدرسة داراً للمطالعة عامرة بالكتب التي وقفت عليها، ومن هؤلاء العلماء الذين نهلوا من علومها وألفوا مصادر جمة (ابن مالك النحوي الشهير) حيث كان يدعو الناس إلى المدرسة العادلية وينادي القراءات القراءات - العربية العربية، وأقام فيها "ابن خلكان" زمناً طويلاً وألف فيها كتابه العظيم "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمن"، ومن الأعلام الذين ارتادوها "ابن خلدون" أحد أهم علماء فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، "أبي شامة" وكتابه (الروضتين في أخبار الدولتين.. النورية والصلاحية).
مقصدٌ للأدباء
وتضيف الدكتورة "ديوب": كانت المدرسة العادلية الكبرى قبلة طلاب العلم وروّاد المعرفة، وكانوا يهرعون إليها من أرجاء الأرض، قاصيها ودانيها شرقها وغربها يملؤون رحابها ويعمرون بأصواتهم وقراءاتهم أنحاءها، لكن بقدوم العثمانيين واحتلالهم "سورية"، أصبحت المدرسة العادلية مدرسة خالية خاوية متداعية الأركان، مهدمة تبكي جدرانها مآثر العلم والمعرفة التي كانت تصدح بها قبل ذلك، وبعد جلائهم قامت الحكومة العربية وجعلت من المدرسة مقراً للمجمع العلمي العربي، وأذكت من جديد شعلة العلم والمعرفة منابرها، وعادت لسابق عهدها مأوى للأدباء ومجمعاً للعلماء وحضناً لكنوزها الغالية، وباجتماع المجمع العلمي العربي الأول أصبحت ندوة للعلماء يتباحثون فيها ويؤلفون وينشرون شتى العلوم والعارف".
أهميةٌ علميّةٌ خالدة
وإلى اليوم ما زالت للمدرسة العادلية أهميتها القائمة بالبحث في العلوم العربية وآدابها، ما جعلها وحسب وصف الدكتورة" ديوب" تتسع للعلوم والفنون قاطبة، وكتب كثيرة تروي بعناية ما خلفه الأجداد من كنوز حضارية عريقة، إذ تعمل على إعادة نشرها وتحقيقها، ومن أجمل ما دون عن هذه المدرسة هو الإقدام على نشر كتاب "تاريخ مدينة دمشق" لـ"ابن عساكر"، الذي يعدُّ من أثمن ما نشر في حنايا تاريخ هذه المدرسة العادلية الكبرى وتحديداً في الجزء الخمسين من الكتاب، حيث ذكر في كتابه (دار العقيقي تجاه المدرسة العادلية بناها "أحمد بن علي بن محمد العقيق" وكان من وجوه أشراف دمشق، ومحلة باب البريد) كما تبلغ أجزاؤه الثمانين جزءاً، بالإضافة إلى إصدار مجلة ضمّت مقالاتٍ وبحوثاً قلّ مثيلها عن تفاصيل المدرسة، ومن أهم معالم المدرسة الأثرية المدخل الجميل والفناء الواسع الذي يتوسطه حوض ماء، الإيوان، بعض الأروقة الرائعة، وقبة وضريح الملك العادل، وأجمل ما يميزها حسن هندستها المعمارية.
متحفٌ للزخرفة
تُعدُّ المدرسة نموذجاً لعمارة العهد الأيوبي، فهي من أهم المباني من حيث التّخطيط ورصانة البناء، تشير "غدير وهبة" المتخصصة بعلم الآثار الكلاسيكي، إلى أن مخطط المدرسة الأصلي طرأت عليه بعض التّعديلات، لكن أقسامه الرّئيسيّة وعناصره المهمّة ما تزال تحافظ على وضعها الأصيل، ومن ذلك واجهة المدرسة الشّرقيّة والجنوبيّة وبوّابتها وصحنها وإيوانها الكبير الشمالي.. كانت بوّابتها تمثّل هندسة فريدة، حيث تتألف من فجوة ترتفع بارتفاع الواجهة الحجريّة، مسقوفة بعقد من الحجر في وسطه حجر متدل كالمفتاح يقسم عقد الإيوان إلى قوسين صغيرين من الحجارة المقرنصة، وفي وسط هذه الفجوة باب يحيط به إطار من المداميك الحجريّة المتناوبة باللّونين الأسود والأبيض، تعلوه زخارف حجريّة، ويؤدّي الباب إلى دهليز واسع مسقوف بقبوة يليه باب ثانٍ مفتوح على إيوان مرتفع مطلّ على صحن سماوي مربع الشكل وتتخلله زخارف هندسيّة، تتوسّطه بحرة ماء مربعة وإلى الجنوب باب يؤدي إلى ضريح الملك العادل، كما يحيط بالصّحن من الجهة الجنوبيّة المصلى وهو مسقوف بثلاثة أقبية متقاطعة وفيها محراب مزيّن بمقرنصات، ويقابله في الجهة الشّرقية إيوان صغير مفتوح على دهليز الباب الرّئيسي للمدرسة، والجهة الغربية هي الجزء الذي تمّ تجديده كلّياً في العصر الحديث فأصبحت تتألف من ثلاث غرف تُستخدم كمستودعات، ويُلاحظ بأن المبنى بشكل عام خالٍ من الزّخارف حيث تُسيطر عليه البساطة، ورُممت المدرسة العادليّة بما يقارب من هندستها الأصليّة، وجُعل قسم منها متحفاً للآثار الإسلاميّة.