في الظهيرة أو بعد مغيب الشمس، لا فرق في التوقيت خلف الجدار المقابل لمحطة الحجاز، هناك تقع أو تختفي مكتبة "دار عبادة"، في نهاية الزقاق الضيّق بين حي الحلبوني والشارع العام. قبل أعوام توّجه صاحبها "محمد زكي رمضان يوسف/ أبو عبادة" إلى أحد المعنيين في المحطة، حاملاً عريضةً وقعها المتضررون من بناء الجدار، بعضهم أصحاب محلات وآخرون أطباء ومهندسون إضافة إلى عدد من السكان، وكان الرد مُهيناً جداً بحقه، وما زال مستمراً بحق الجميع في الطريق المحصور.

يستعين أبو عبادة بضوء الموبايل، خلال ساعات انقطاع الكهرباء الطويلة، التي زادت الوضع سوءاً، المكان مُعتم، بعيدٌ عن أعين المارّة، القرّاء قلّة، والزمن اليوم لا يُشبه ما كان عليه عند افتتاح المكتبة. يقول أبو عبادة في حديث إلى "مدوّنة وطن": "في شبابي كنت أعمل على "مكبس بلاط"، توّجهت إلى الكتب مصادفة عن طريق أخي، سافر إلى الرياض وكان رئيس تحرير مجلة اسمها "عالم الكتب"، ومع افتتاح مكتبة الملك فهد الوطنية، أصبح رئيساً لقسم الفهرسة والتصنيف فيها، طلب مني شراء الكتب المستعملة وتجليدها وإرسالها إليه، استمرّ هذا التعاون لمدة عشر سنوات، ثم بدأتُ عملي الخاص، اشتريت هذا المكان وحوّلته إلى مكتبة 1990".

العمل في ميدان الكتاب، جعل من أبو عبادة قارئاً نهماً، فتح أمامه آفاقاً وعوالم لا حدود لها، رغم أنه حاصلٌ على الشهادة الإعدادية فقط. يُتابع للمدوّنة: في ضيعتي "قبور البيض" واسمها حالياً "القحطانية" في محافظة الحسكة، لم نعرف كتباً سوى كتب المدرسة والمصاحف الموضوعة في صدر البيوت للبركة، فغالبية الناس كانوا كرداً، لا يعرفون اللغة العربية، وفي بيتنا عرفنا الكتاب من خلال أخي، كان يدرس في دمشق وفي زيارته لنا يصطحب معه مجلات مثل "طبيبك" و"العربي".

كنوز من الكتب والمؤلفات

اهتمّ أبو عبادة بكتب التاريخ والتراث والأدب واللغة، مع بعض المجلات والدوريات، يضيف: "كان هامش الربح جيداً يوم كان الزبائن من مختلف الجنسيات، من الخليج واليابان وفرنسا وألمانيا يقصدونني ويطلبون عناوين ومواضيع يحتاجونها أو يرغبون بالاطلاع عليها، إلى جانب القرّاء المحليين، بالطبع كل هذا اختلّ مع بدء الحرب، إلى أن تغيّر المشهد كلياً".

يستغرب صاحب المكتبة الضجة التي أُثيرت مؤخراً مع إغلاق عدة مكتبات في دمشق، فهو برأيه أمرٌ طبيعيٌ جداً في هذه المرحلة، غلاء الكتب يتوازى مع ارتفاع الأسعار الذي طال كل شيء، الورق والتنضيد والمطابع وأجور العمال والشحن، فكيف سيحافظ الكتاب على سعره القديم؟. يقول لـ"مدوّنة وطن": "المكتبة اليوم لا تقدم أي مردود مادي، زوّارنا من الأصدقاء والمعارف فقط، لكن الإغلاق غير وارد بالنسبة لي، أنا متمسكٌ بعملي وكتبي، ثم المكان هنا محجوبٌ عن النظر في كل الأحوال، بالتالي النتيجة لن تختلف كثيراً".

العتمة وقلة الرواد

يعود أبو عبادة إلى تجربةٍ يتيمة في الكتابة، عايشها أثناء أدائه لخدمة العلم عام 1985. يحكي لـ"مدوّنة وطن": "ذهبتُ في إجازة إلى ضيعتي، وفي عاداتنا نستقبل الضيوف والمهنئين في المناسبات، ومن باب التسلية يحكي كل منهم قصة، استمعتُ إليهم ثم إلى والدي، بقيت قصته تدور في رأسي، أخذتُ الأحداث الرئيسية فيها وأضفتُ إليها شخصياتٍ وتفاصيل جديدة، وكتبتها تحت عنوان "السفر الأخير"، في جوهرها قصة حقيقية من التراث الكردي في فترة الحرب العالمية الأولى".

استفاد أبو عبادة من وجود آلةٍ كاتبة في مكان خدمته، فكتب الرواية خلال عام كامل، ولأن لغته كانت متواضعة بسبب انقطاعه عن القراءة والكتابة، أرسل روايته إلى أخيه لتنقيحها، ثم طبعتها إحدى دور النشر وأعادت مطبعة المكتبي طباعتها منذ عشر سنوات. عنها يشرح: "بعد أن قرأت واتسعت مداركي، رأيت أن روايتي بسيطة، وهنا يكمن جمالها، عرفت بالصدفة أنها تُرجمت إلى الفارسية، حين سافر قريبي إلى إيران ووجدها هناك، كذلك أكّد بعض أصدقائي رغبتهم بترجمتها إلى التركية، أتمنى أن يقرأها أحدهم ويشتغل عليها مجدداً".

الباحثة الدكتورة عزة آقبيق عرفت مكتبة دار عبادة عام 1987، وهي كما تصفها من الأقدم في حي الحلبوني، غنيةٌ بأمهات الكتب، تحديداً المعنية بالتاريخ السوري، تقول لـ"مدوّنة وطن": استقبلتْ المكتبة ضيوفاً وباحثين من مختلف أنحاء العالم، حتى أن أبو عبادة كان يصحب زبائنه إلى دمشق القديمة ويعرّفهم على معالمها، يساعد القراء والطلاب وكل محتاجٍ لمعلومة.

وترى آقبيق إن قارئاً شغوفاً كصاحب مكتبة دار عبادة، أمضى حياته بين الكتب، لن يُفرّط في مكتبته مهما كانت الظروف سيئة، على أمل أن لا تسوء أكثر.