ترجمتْ "عفراء هدبا" شغفها بالكتب إلى فعلٍ ثقافيٍّ حي، بتأسيسها دار نشرٍ في مرحلةٍ تحوّل فيها الكتاب إلى رفاهية لا مكان لها، ومع أن صعوبات الطباعة والعرض والتسويق كانت تتفاقم خلال الأعوام الأخيرة، إلا أنّ عزيمتها لم تفتر، بل حاولت التفكير بأساليب ومبادرات تدعم مشروعها، حتى اقترن اسمها بـ"دار دلمون الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع" الحاضرة في مختلف النشاطات الثقافية.

العائلة والمنطقة

"عفراء هدبا" مهندسة ميكانيك تعمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وقبل ذلك في مطار دمشق الدولي، شغلت أكثر من موقع إداري في كلا المكانين، أما على مستوى الميول والاهتمامات الأخرى فهي قارئة نهمة للكتب والروايات، وهذا يعود حسبما تقول في حديثها مع "مدوّنة وطن" إلى مرحلة الطفولة والبيئة التي نشأت فيها.

تضيف هدبا: "توافرت لي ولإخوتي مكتبة جامعة شاملة أسسها والدي رحمه الله وقد كان قارئاً من الطراز الرفيع، وكان من الرواد في مجال التربية والتعليم ما يجعله يؤمن بأهمية الكتاب والثقافة في بناء الفرد والمجتمع، فخلّف لنا كنزاً معرفياً وثروةً من العناوين منها ما هو نادر ونفيس باللغتين العربية والفرنسية بالإضافة إلى الروايات العالمية المترجمة بنسخها الأولى، والمجلات الدورية التي تُعنى بقضايا الثقافة والعلوم، وكانت تصلنا تباعاً بمجرد صدورها عبر اشتراك دائم، من هنا كان لا بدّ من أن أتأثر بهذا الجو المفعم بألوان الثقافة على مستوى العائلة والمنطقة التي أنتمي إليها، وهي مدينة مصياف التي صدّرت الكثير من أعلام الأدب والثقافة الذين قادوا المرحلة باقتدار كرموز ونماذج تُحتذى أمثال: ممدوح عدوان، فاديا غيبور، علي سليمان معروف، رفعت عطفة وغيرهم كثيرون، وطالما كان مركزها الثقافي قبلة للأدباء والمبدعين من سوريا والوطن العربي".

رهان على الثقافة

فكرةُ التأسيسِ

تحديات كبيرة والمشروع مستمر

قبل قرار تأسيس "دار دلمون الجديدة" كانت اهتمامات هدبا تنحصر في متابعة الفعاليات الثقافية من أنشطة سينمائية ومسرحية وندوات بالإضافة إلى معارض الكتب التي ساعدتها في تشكيل مكتبتها الخاصة. تقول للمدوّنة: "ألهمتني هذه الأجواء لفكرة تأسيس دار نشر في رهان على مستقبل الكتاب، وعدم تراجعه أمام التحديات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، خضت هذا التحدي بدافع المسؤولية الوطنية والإنسانية خاصة مع اندلاع الحرب وتداعياتها على حياتنا واستهدافها لعقول شبابنا ورموز حضارتنا، كان لا بد من التصدي لمفرزاتها بسلاح ماضٍ في مواجهة الإرهاب والفكر التكفيري، ولكل ما ينشر من عناوين تكرّس هذا الفكر التدميري الذي يقوده مشروع استعماري لا يخفى على أحد".

لكن كيف تعاطى المقربون مع مشروع هدبا، ومن ثم العاملون في المجال نفسه؟

"عفراء هدبا"

تجيب: "حظيت بدعم وتشجيع من عائلتي أولاً ومن أصدقائي الذين يتفقون معي في الأفكار والأهداف، ورغم أن بعضهم حذرني من مخاطر هذه المغامرة كما وصفوها ولكن ذلك لم يثنني عن استكمال مشروعي متجاوزةً العقبات والمصاعب، معتمدةً على حدسٍ صادق في صواب رؤيتي، وإيمان مطلق بجدوى مشروعي، وأخصُّ بالذكر الصديق المقرّب الكاتب والأديب "لؤي عبد الإله" الذي كان شريكاً حقيقياً منذ ولادة هذا المشروع إلى أن تبلور بشكله الحالي، وما زال مرجعاً نثق برؤاه الثقافية وتجربته الغنية، أما العاملون في مجال الطباعة والنشر فبعضهم كان مرحباً وبعضهم كان ناصحاً بداية وداعماً فيما بعد، وبعضهم كان منافساً أو حاسداً، وأنا أشكر الجميع دون استثناء انطلاقاً من الزمالة التي جمعت بيننا، والهموم والمتاعب والطموحات المشتركة والمنافسة الشريفة لتقديم الأفضل، ونحن في النهاية نتكامل ونشكل جبهة واحدة لصالح الفكر والثقافة".

مشروعٌ قائم

تطورت فكرة الدار حتى أصبحت مشروعاً قائماً على الأرض عنوانه "دلمون الجديدة" عام 2014. تشرح هدبا: "انطلقت من دلالة الاسم إلى جوهره كمعنى، وهي أرض الحياة التي قصدها جلجامش بحثاً عن نبتة الخلود، هذا العنوان كان مصدر إلهامٍ لنا في مشروعنا الثقافي الذي نتطلع من خلاله ونبحث عن معنى الخلود عبر ترسيخ قيم الخير والحق والجمال، وسبر أغوار الحضارة وما تنطوي عليه من إبداع". وككل المشاريع التي يقدم عليها الإنسان في بيئة لا توفر كل معطيات النجاح، مرّت الدار بمطبات وواجهت صعوبات تتعلق بقضايا رقابية وتسويقية واقتصادية، تضيف: "استطعنا تجاوز هذه المطبات بإصرارنا على انتزاع حقوقنا في نشر الفكر والثقافة رغم كل الظروف".

تلتزم الدار بمجموعة معايير تعدها ثوابت، حتى أصبح لها اليوم حضورها بين دور النشر، والبداية من اختيار مطبوعاتها. توضح هدبا للمدوّنة: "الجودة في المحتوى والمضمون أساس لما تقدمه الدار من عناوين بالإضافة إلى سلامة اللغة ودقة الهدف ومرجعية الكتاب الوطنية والأخلاقية، إضافة إلى أنها أخذت بيد الكثير من الشباب دعماً وتوجيهاً لتسديد خطاهم على طريق الإبداع عبر إقامة المسابقات وتقديم الجوائز المحفزة، وهذا ما ميزها ربما عن بقية دور النشر بالإضافة إلى التنويع في العناوين لتشمل كل نواحي الإبداع وتلبي حاجات القراء من أدب وفكر وقراءات وترجمات".

وكما يُفترض تضع الدار خططاً متجددة تُواكب من خلالها كل ما هو جديد حتى تضمن الاستمرار وتلبية احتياجات القراء الثقافية والفكرية، وهو ما يتطلب برأي صاحبتها "المزيد من الجهد والنشاط والمشاركة في المعارض العربية والعالمية"، ومع أن الدار مشت خطوات جيدة على هذا الطريق، لكن ما زالت تتطلع إلى تحقيق المزيد من الانتشار.

رافدٌ ثقافيّ

الكاتب والزميل عمر جمعة، متابعٌ للشأن الثقافي، وجد في "مشروع دلمون" وجوانبه المتعدّدة، ما يشكّل حسبما يقول للمدوّنة: "إضافة مهمّة للمشهد الثقافي المحلي والعربي، سواء على مستوى صناعة الكتاب وتقديمه للقارئ بأبهى وأوفى صورة، وبأعلى درجات الجودة في التحرير والطباعة والتصميم، أو اختيار عناوين تسعى المؤسّسة الوليدة من خلالها إلى تحقيق أهدافها في نشر الثقافة العربية وتفعيلها، عبر التوجّه إلى مؤلفات لكتّاب سوريين وعرب، وبناء الجسور مع الثقافات الأخرى في شتى أنحاء العالم من خلال ترجمة بعض الكتب التي تلبي حاجة ورغبة القارئ العربي في الاطلاع والبحث في آداب وفنون الشعوب الأخرى".

على أن المحطة الأهم التي يمكن الوقوف عندها وتؤكد جدية الدار كمؤسّسة ثقافية غير ربحية، والكلام لـ"جمعة": "هي إطلاق مسابقات أدبية للتعريف بالكتّاب الشباب في حقل القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، فضلاً عن رعاية الندوات والأنشطة الثقافية وإقامة حفلات التوقيع لبعض إصداراتها، وتقديم إهداءات وحسومات كبيرة لطلبة المدارس والجامعات، حيث من النادر أن تجد اليوم في عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة المتسارعة من يدعم صناعة الكتاب الورقي، ويؤمن أن دار النشر يمكن أن تكون مؤسّسة ثقافية متكاملة، حقيقية وفاعلة، تجسر الهوة التي عمّقتها بعض وسائل التواصل الاجتماعي بين القارئ والكتاب".