لم يكن هدير بابور الكاز قديماً حكراً على بيوت دون غيرها بل كان مكوّناً أساسياً واجب الحضور في البيت "السوري"، ورغم التطورات التكنولوجية التي أحلّت أفران الغاز والكهرباء محل "البابور"، لا يزال البعض يمتهن تصليح "البوابير" ومنهم "البوابيري" "خالد أحمد شريف جومر أبو وليد" من مدينة "دير عطية"، الذي أخذ على عاتقه الحفاظ على هذا الإرث الذي خلّفه له والده، فكرّس جلَّ عمله داخل ورشة لتصليح "بوابير" الكاز رغم تراجع العمل بالمهنة من جهة وعزوف الناس عن استخدام شعلته من جهة أخرى.

منذُ نعومةِ أظفاره

يعمل "أبو وليد جومر" منذ نعومة أظفاره في تصليح البوابير إلى جانب والده قبل وفاته وهو الذي كان مشهوداً له في هذه الحرفة التي كان يفترض أن تنتهي لولا الظروف المعيشية الصعبة التي أعادتها الى الواجهة من جديد.

فمنذ ساعات الصباح الأولى وحتى المساء، يفتح "جومر" أبواب محله الصغير المخصّص لصيانة بوابير الكاز وأباريق الشاي وأدوات المطبخ النحاسية القديمة، وسط المدينة في ساحة الشقطي بجانب جامع "عمر بن الخطاب"، يعيش بين زواياه الأربع طيلة اليوم وهو البالغ من العمر 58 عاماً، والعكاز رفيق خطواته فهو مريض وكان قد أجرى عملية جراحية لرقبته لم يكتب لها النجاح فأثرت سلباً في قدميه، يعرفه معظم سكان المدينة وأغلب زبائنه من النساء، ورغم العشوائية التي تسود محله فهو يعرف مكان كل قطعة ويحفظها عن ظهر قلب، حرفته أعطته أهمية خاصة فصوت إشعال البابور الصباحي الذي يمارسه يشبه العلامة المميزة -حسب وصف أهالي الحي- فهي الدليل على وجوده.

المعلم ابو عبدو يدقق

حرفةٌ متوارثةٌ

قطع تبديلية

يقول "جومر" في حديثه لـ(مدوّنة وطن): "مضى على وجودي في هذا المحل قرابة الـ48 عاماً، ورثت المهنة عن والدي الذي كان يمتهن حرفة "السنكري" كان عمري حينها 10 سنوات فتعلمت أصول المهنة بكل إتقان.. أذكر أنه في فترة الستينيات والسبعينيات، كان زمن عز البابور، إذ كان يعدُّ الأداة الأساسية لمنازل سكان القلمون وليس غريباً لو قلت لك اليوم بدأت أيام بوابير الكاز تعود مجدداً، وبات يحقق حضوراً مجتمعياً في ظل الغلاء الفاحش.. معظم من يأتون إلى هنا ناس دراويش، والسبب واضح: الفقر يأكل الأخضر واليابس".

يعود قدم "البوابيري" إلى قدم هذا المكان أو قدم تلك الحارة وأزقتها التي ما تزال تروي حكايات أصحابها والمهن المتوارثة جيلاً بعد جيل.

كسار يتفحص بع الاصلاح

الحضورُ مجدداً

ملامح وجهه امتلأت بتجاعيد الزمن والحنين الموفور إلى الماضي، نصف قرن من الزمن قضاها هذا الرجل في إصلاح بابور الكاز فصار قبلة البسطاء ممن يبحثون عن بدائل رخيصة لأغراض الطهي والتدفئة.

يتابع "جومر" حديثه بالقول: "منذ عشر سنوات وطيلة أيام الحرب كنا نستخدم بابور الكاز بسبب قلة المحروقات وعدم توفر مادة الغاز بالشكل الكافي، ما جعل بابور الكاز يعود للحضور من جديد ، لم يكن التطور هو السبب المباشر في تراجع المهنة بل ساهمت عوامل أخرى في ذلك أيضاً وأهمها ارتفاع أسعار الكاز، رافقه ارتفاع سعر النحاس أيضاً، وعلى سبيل المثال رأس البابور كان سعره 8 آلاف ليرة سورية، أصبح اليوم سعره 15 ألف ليرة، والبابور ذو النوعية الجيدة يصل سعره اليوم إلى 65 ألف ليرة، والبوابير الجديدة معظمها يستجر من "حلب ودمشق وحمص" وينتجها أصحاب محال الحدادة ومعلمو الخراطة والتسوية".

"قيصر" والبابور

في محل آخر للتصليح، تطالعك بوابير هنا وهناك وأدوات قديمة مكدسة في محل "محمود قرقوز أبو عبدو" تحكي قصص مهنة تكافح لأجل البقاء، على يد أصحاب هذا الكار الذين يجهدون في سبيل المحافظة عليها بإخلاص كبير عملاً بالمثل الشعبي القائل: "اللي مالو قديم مالو جديد".

"عز الدين كسار أبو محمد" وهو شريك "قرقوز" في المحل الكائن في حارة جامع الإيمان، يعمل على إصلاح البوابير منذ قرابة 10 سنوات، فقد جاء من "الرقة" خلال سنوات الحرب وبدأ يعمل في محل العم "قرقوز"، ويقول في حديثه للمدوّنة: "لا يزال هناك أناس يستخدمون البوابير في الشتاء في ظل نقص مادة مازوت التدفئة، والبوابير تساعد في التدفئة والطهي، قديماً كانت البوابير تأتي ومعها قطع التبديل اللازمة لإصلاحها، اليوم بتنا نحتاج الى قطع التبديل التي يصعب توفيرها وأسعارها مرتفعة، وعلى ما يبدو حصار "قيصر" الذي يعاني منه الشعب "السوري" برمته وصل إلى بابور الكاز أيضاً".

وكما لكل شخص عملٌ يحبه ولا يستطيع تركه مهما بلغ الأمر مبلغه، امتهن العم "محمود قرقوز أبو عبدو" هذه المهنة وأحبها فهي حسب ما يقول "يفوح من ثناياها نسيم الذكريات... سنوات طويلة كان البابور وسيلة للتدفئة وأداة للطهي، ويعدّه الكثيرون الصديق المؤنس في ليالي الشتاء الحالكة كما في القلمون".

رفيقُ الصبا

الفلاح "محمد سليم عاصي أبو عمار" يصف في حديثه لمدوّنة وطن كيف أنّ البابور عاد اليوم وبقوة بعدما غاب لسنوات، نظراً للحاجة الماسة له في ظل النقص الحاصل في المحروقات، ويتذكر "عاصي" كيف كان البابور وسيلته للتدفئة عندما كان يافعاً في صباه.

فيما تقول السيدة "عائشة خالد سعده" لـ(مدوّنة وطن)، إنها تذكر عندما كانت في عز صباها وهي التي تبلغ من العمر 80 عاماً، أن من كان لديه في بيته بابور كاز يعدُّ من الذوات (الأكابر)، وكثيراً ما كان البعض يذهب للعائلة التي تمتلك بابور كاز ليطهي عليه تخلصاً من شحار المواقد.

بابور" سيروس اليبرودي"

ويكشف المهندس "حسين حمدان" من أهالي مدينة "يبرود" لـ(مدوّنة وطن)، أنّ معمل "سيروس" لإنتاج البوابير أُنشئ عام 1957 في "يبرود" وكان الوحيد في "سورية" وفي "الوطن العربي"، وقد بناه المغتربون (توفيق اللي وحسن عابدين وحسن كبور ) و"سيروس" وهو "أرجنتيني" الأصل جاء إلى "يبرود" برفقة المغتربين ومن اسمه جاءت الماركة التي دوّنت على بوابير الكاز.

وحسب المهندس حمدان، قدرت مساحة المعمل بــ1000 متر مربع وكان عدد العاملين فيه آنذاك 60 عاملاً أي ما يقرب من ستين أسرة مستفيدة، وكان المعمل ينتج ثلاثة قياسات بنوعية الرأس المخفي والعادي وكان إنتاجه يصدّر الى الدول العربية وإلى "جنوب أفريقيا" وكان النحاس يستورد من "تشيكوسلوفاكيا" سابقاً لصالح المعمل ويتم توريده عبر البحر.

آخرُ الكلامِ

تقول المراجع التاريخية إنّ بابور الكاز اختراع غربي يعود إلى ما قبل مئة عام تقريباً، صنع بداية في "السويد" ومن ثم انتقل إلى دول أخرى ومنها "سورية"، حيث بات إرثاً قديماً، لكنه بات يتجدد على يد صنّاع جدد ممن اتجهوا إلى التفنن في صناعة بوابيرهم لتناسب كل الأذواق والالتفاف من خلال منتجاتهم على مصاعب الحياة.