للزيّ التقليديّ لغةٌ تحمل خصوصية المجتمعات، فهو الركن الأساسي لحياة الشعوب وتشكيل هويتهم المرتبطة بعاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم التي مارسوها على مر العصور، وتظهر مهارة ودقة صانعيه في انتقاء نقوشه وألوانه وزخارفه التي ارتبطت بأوضاعهم الاجتماعية ومعتقداتهم الشعبية، فتجسدت بذلك خصوصية كل منطقة وثقافتها.

الزيُّ الدمشقيُّ

كانت الأزياء الشعبية في مدينة "دمشق" تتبدل وتتغير وفق حاجات ومتطلبات البيئة المحيطة، هذا ما أكده الباحث "محمد فياض الفياض" في حديثه لمدوّنة وطن بالقول: "عندما نتحدث عن الأزياء الشعبية في "دمشق" تتبادر إلى أذهاننا تلك الصناعات الحرفية النسيجية المرتبطة بهذه الأزياء، فهي عميقة جداً بعمق ولادة الأنسجة الدمشقية المشهورة كالدامسكو والبروكار والصايا وغيرها.. وأصبح للأزياء الشعبية الدمشقية مدارسها الخاصة وعمقها الاجتماعي، وتشعبت لتشمل بيئات المجتمع الدمشقي كله، وباتت هذه الأزياء تتجلى بطبيعة العادات والتقاليد وكذلك الأعراف والطقوس، وتميزت الأزياء الشعبية بقوة في المجتمع الدمشقي في الأفراح والأتراح، وأصبح للنساء لباسهن الخاص بحسب أعمارهن وحالتهن الاجتماعية، إذ نجد لباس العزباء يختلف عن لباس المتزوجة وكذلك الأرملة، كما ظهر لباس الرجال بصور مختلفة أيضاً حسب أعمارهم ووضعهم الاجتماعي، كما أصبح لفئات التجار والحرفيين وصغار الكسبة لباسهم الخاص، وظهرت مفردات خاصة باللباس وطرق استخدامه".

مرآةُ البيئة

ويرى "الفياض" أن الأزياء الشعبية جسدت ثقافة المجتمع المتماسك، وهذه الثقافة وإن تلاشت بعض مفرداتها لكنها تبقى جزءاً لا يتجزأ من المجتمع وتراثه الحي، فهي ليست حالة عارضة بل هي كالينبوع المتجدد تتطور وفق حاجات المجتمع ومتطلباته، كما أنها مرآة الواقع التي تعكس الصورة الحقيقية عن مدى ارتباط الناس بعاداتهم وتقاليدهم وأفراحهم وأتراحهم.

مجموعة من الأزياء الدمشقية المتنوعة

ولا تمثل الأزياء الدمشقية -حسب قوله- بيئة محددة فقط من بيئة المجتمع الدمشقي بل هي حالة توافقية تتكامل مع العادات والتقاليد وترتبط بقضايا وأركان أساسية أهمها الألوان وتجلياتها، الزخارف ودلالاتها، كما يرتبط بهذه الأزياء التراث الشفوي المتمثل بالغناء والأمثال الشعبية، كما شكلت الحلي التقليدية مفردة من مفردات الزي لها دلالاتها ووظيفتها.

نحوَ التوثيق

ويؤكد "الفياض" أنّ الهوية المتعلقة بالأزياء الشعبية تتعرض اليوم لهجمة شرسة من قبل دعاة الحداثة والغزو الثقافي الذي يريد طمس هذا التراث وتصدير تراث جديد يقضي على الأصالة ويشوّه هذه المجتمعات بقيم وعادات جديدة، ولكن مؤسساتنا الثقافية تسعى جاهدة لتوثيق هذا التراث وتسجيله لصيانته وحمايته ليكون داعماً أساسياً لقيم المجتمع.

لباس دمشقي تقليدي

ويقول "الفياض": "تعدُّ "سورية" من أكثر البلدان محافظة على أصالة تراثها من خلال عدة محاولات كالأبحاث والدراسات التي قام بها الدكتور "حسن حمامي" المدير السابق لمديرية التراث الشعبي في وزارة الثقافة، كما كان للفن التشكيلي الدور الأمثل في توثيق الأزياء الشعبية التي جسدها "د. خالد معاذ" مدير الآثار السورية السابق، والفنان التشكيلي "زياد زكاري" الذي وثّق هذه الأزياء من خلال لوحاته الفنية، كما تمت طباعة مجموعة من الطوابع البريدية التي طبعت عليها الأزياء الشعبية، وتعد هذه المجموعة من أندر المجموعات العربية التي صدرت كونها تتعلق بتوثيق الجوانب التراثية للأزياء السورية والحرف التقليدية، كما أحدثت وزارة التعليم العالي مشروعاً أكاديمياً بإحداث ماجستير التأهيل والتخصص في التراث الشعبي وكنت من مؤسسيه وكان لي الشرف بتدريس الجانب العملي من مادة الفنون الشعبية".

ويختم "الفياض" حديثه: "اللباس الشعبي سيبقى الركن الأهم في حياة الشعوب وعلينا توثيقه وحمايته من خلال إفراد مساحات واسعة له من خلال المناهج الدراسية وعلى المستويات كافة".

صورة من أرشيف الباحث محمد فياض الفياض عن لباس النساء قديماً

رحلةُ الزيّ الدمشقيّ

وخلال جولتنا في سوق الحميدية التقينا أحد المصنعين للزي الدمشقي التقليدي "محمد حمدي قنارة"، وهو من الذين يعملون بهذه المهنة منذ أكثر من أربعين عاماً، حيث أكد أن الزي الشعبي الدمشقي يختلف من بيئة لأخرى حسب الوضع الاجتماعي والمادي، فالمرأة في الأسرة الغنية كانت تلبس القماش الجيد الغالي كالمخمل والحرير، بينما المرأة الفقيرة، كانت تقتني الأقمشة الرخيصة من الخام، ولكن الصفة المشتركة بين لباس الفئتين كانت الألوان الزاهية والأسماء المشتركة، بينما عندما تخرج إلى السوق أو الزيارات كانت ترتدي لباس الرأس ويسمى "البخنق"، وهو عبارة عن برقع صغير يغطي الرأس، والخمار يغطي الرأس والعنق وجزءاً من الصدر، والنقاب الذي تضعه المرأة على وجهها عند خروجها من المنزل يتميز بشيء من الشفافية إضافة إلى الملاءة السوداء والعباءة السوداء الطويلة التي تصل إلى أسفل كعب القدم، وتسميتها باللغة المحكية (الملاية) وهي عبارة عن قطعة واحدة تغطي كامل الجسم وتعرف "بالملاية الزّم"، ولم تعد تستخدم منذ زمن ليس ببعيد، ومنها أيضاً الملاية من قطعتين تغطي العلوية منها الرأس حتى الوسط وتسمى "البرلين"، بينما تتدلى السفلية من الوسط حتى القدمين وتعرف "بالخرّاطة" التي ما تزال مستعملة حتى يومنا هذا، وكانت العادة أن يغطى الوجه بقماش أسود اللون يسمى "المنديل"، ومع الأيام بدأ اختفاء المنديل، وبقيت "الملاية" رمزاً تراثياً لا يزال منتشراً بين أوساط كثيرة من النساء".

ألبسةٌ رجاليّة

وفي وصفه للباس الرجل الدمشقي يشير "قنارة" إلى أنه كان عبارة عن "القنباز" وهو لباس الجسم الكامل ويعرف "بالصايه" إن كان مصنوعاً من الحرير، و"بالساكو" إذا كان من الجوخ الأجنبي المتين، و"بالدّربية" وتلفظ بالعامية "المضرّبية" وهي جبة طويلة مدربة بخطوط مستقيمة أو مائلة وهي الأكثر شيوعاً عند غالبية الناس، و"بالروز" إذا كان من الحرير الأبيض، كما يلف حول الخصر فوق "القنباز" شملة أو شالة من الصوف، وهناك أيضاً (الجاكيت) وتسمى باللغة المحكية "سترة" عندما يكون لديها أزرار و"دامر" عندما تكون من دونها، وأيضا "الصباط" لم يكن معروفاً بشكله الحالي بل كان بلا (شواطات) ويسمى "كندرة"، وإذا كانت هذه كالشحاطة تسمى "كندرة كسر"، وإذا كانت من النوع الأول بكعب مرتفع عرفت "بالشوبرو"، ومن الألبسة التي عمت "دمشق" وما زالت موجودة "الشروال" ويلبس معه "الميتان" ويشبه القميص، ولاستكمال الزي تلبس فوق الميتان (سترة) ذات أكمام عريضة، وهناك أيضاً "الطربوش" وهو غطاء الرأس المصنوع من اللباد المغلف بالجوخ الأحمر، وكان يعرف بالطربوش "التركي"، ومع دخول اللباس الأجنبي إلى "دمشق" تحولت أعداد كبيرة من شخصيات المجتمع إلى ارتدائه، وصار يعرف باللباس "المحكمجي" ولكن في أيامنا هذه قلّ الطلب على هذه الأزياء ولم تعد تستخدم إلا بالمناسبات والأعياد الدينية والشعبية.

دورُ الدراما

ويوضح "محمد خير شكير" منسّق ملبوسات الممثلين في الدراما السورية وخصوصاً الشامية، كيف كان للدراما دورٌ مهمٌ في تعريف المجتمع السوري على الزيّ الدمشقيّ الذي كان موجوداً في الماضي، وخصوصاً في المسلسلات التلفزيونية التي جسّدت البيئة الدمشقية بتفاصيلها المتنوّعة ما أدى إلى زيادة الطلب على هذه الأزياء.

أجريت اللقاءات بتاريخ 13 تشرين الثاني 2021.