هو شعر الومضة والتأمل كما يطلق عليه البعض فمن خلاله يحاول شاعر "الهايكو" التعبير عن مشاعره بألفاظ بسيطة، وتتألف أشعاره من بيت واحد فقط مكون من سبعة عشر مقطعاً صوتياً (باليابانية) وتكتب عادةً في ثلاثة أسطر، وبالرغم من أن هذا النوع من الشعر المسمى "هايكو" لا يزال مجهولاً لدى الكثيرين، إلا أن ثمّة من استهواه هذا النوع الشعري وشرع بتجارب كتابة ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً "الهايكو العربي".

الإشراطُ الذهنيّ

للوقوف على هذا النوع الشعري وتطوره التقينا د."سامر زكريا" شاعر "الهايكو" وصاحب كتاب "رقصة الهايغا مع الهايكو" وكتاب "الهايكو العربي" بالاشتراك مع "ربيع الأتات"، الذي يوضح علاقة هذا النوع الشعري بالإشراط الذهني بقوله: «الهايكو هو تحرّرٌ من إشراط الذهن، كأن نذهب إلى حفلة معتقدين أن المدعوين سيكونون متصنعين أو غير مرحبين، أن نزور مكاناً جديداً ونحن نتوقع الأسوأ، أحكامنا، مخاوفنا، معتقداتنا، أفكارنا وتصوراتنا، كلها نماذج من الإشراط الذهني، تمنعنا من أن نحيا في العالم الحقيقي، وهو الحاضر الذي يتجلى في كل لحظة جديدة، إننا نعيش في عالم مفاهيمنا ونماذجنا الذهنية عن كل شيء، وهذا ليس العالم، يمكن أن نختبر العالم بالحضور والانتباه والرصد والمراقبة والتأمل، في كل لحظة نرصد فيها أفكارنا بحياد، تلك الحركة الذهنية التي لا تهدأ، نتحرر منها مؤقتاً قبل أن يتشتت انتباهنا ثانيةً فنقع من جديد في قبضة الإشراط الذهني».

بدأت بكتابة الهايكو في نهاية عام 2017 وقد تعرفت عليه صدفة عن طريق شاعر عراقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ثم انضممت إلى مجموعة "الهايكو سورية" التي أسسها الشاعر د."سامر زكريا"، ومجموعة "الهايكو العربي" التي أسسها الشاعر والمهندس "محمود الرجبي"

تعريفُهُ وأدواتُه

"الهايكو" الأصيل بحسب د."زكريا" هو محاولةٌ للتعبير اللفظيّ عن هذا الحضور، محاولة للتعبير عن تجلٍّ من التجليّات اللا نهائية للكون، عن اختبارنا للموجود الآن، وأداته هي نصٌّ مكثفٌ قصيرٌ أبدعته أساساً "اليابان" في القرن السابع عشر على وزن وإيقاع معين (كما في بحور الشعر العربي) وهو يتألف من سبعة عشر مقطعاً صوتياً تقرأ على ثلاث مراحل : 5، 7، 5.

د. "سامر زكريا" يوقّع كتاب الهايكو

ومن المواضيع التي تشغل بال المهتمين بالهايكو (أنا الشاعر.. هل هي موجودة أم متنحية في نص الهايكو، وإلى أي حدّ؟).

حول ذلك يقول د. "زكريا": «إذا كُتب الهايكو كتعبير عن اللحظة الحاضرة بأصالة، تكون الأنا غائبة أو تذوب حدودها مع المحيط، ولا يمكن بحال أن تكون مركزاً للنص، بل عنصراً من عناصره في أحسن الأحوال، وكل من يجرب بنفسه تعلّم هذا النوع الشعري يختبر هذا، ففي اللغة "اليابانية" يغيب الفاعل عادةً ولهذا فإن سؤال "التنحي" ليس مطروحاً (مثلاً: في العربية نقول إن الحطّاب قطع الشجرة، بينما عادة في اليابانية يُقال فقط إنّ الشجرة قُطعت) وهذا له علاقة قديمة ومركبة بالتطور التاريخي لبلدان الشرق الأقصى والعوامل الثقافية والحضارية والمعتقدية التي أثرت فيها عبر التاريخ».

الشاعر "فراس حمدان"

ولادةُ التجربةِ

يحدثنا د. "زكريا" حول بدايات تعرفه على "الهايكو" بقوله: «تعود معرفتي به إلى العام 2003 حين قرأتُ كتاب هنري برونل "أجمل حكايات الزنّ يتبعها فنّ الهايكو" مترجماً من منشورات مجلة "عالم المعرفة" الكويتية، سحرني هذا الفنّ وبدأتُ حالاً أجربه، ثم بحثت عن المراجع عنه بالعربية فوجدت المرجع الأهم حتى يومنا هذا وهو كتاب "كينيث ياسودا" بعنوان "واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق" من ترجمة "محمد الأسعد"، ومنشورات "عالم المعرفة" أيضاً عام 1999، وبقراءة هذا الكتاب تعلمت الكثير عن "الهايكو الياباني" وأيضاً عن تجارب كتابته باللغة الإنجليزية بوزن وقافية، ما جعلني أفكر مُنذ ذلك الوقت بإمكانيات كتابته موزوناً، وبدأت فعلاً بكتابة "هايكو" عربي موزوناً على مقاطع صوتية 5، 7، 5 وما زال الأمر في طور التجربة».

الهايكو العربيُّ

يرى د."زكريا" بأن محاولات كتابة "الهايكو" أو ما يشبهه بالعربية، قديمة، لكن "الهايكو العربي" بدأ انتشاره الواسع فعلياً عام 2013، وهو العام الذي أسستُ فيه مجموعة "الهايكو سورية" على فيسبوك حيث كان نادي "الهايكو العربي" موجوداً في "الأردن" منذ عام 2010، وبحسب د."زكريا" تزخر الصفحات والمجموعات بنصوص ومحاولات لكتابة هايكو عربي، منها ما هو جيد جداً ومنها ما هو ضعيف بسبب استسهال المحاولة والنشر، وبرأيه فإن أهم ما يميز "الهايكو العربي" هو الاستفادة من اللغة العربية وهي من أقوى اللغات في العالم قدرة على التعبير، والفارق الرئيسي بين الهايكو العربي والهايكو الياباني هو الوزن بالإضافة إلى البيئة ومواضيع النصوص.

ويتابع د."زكريا" الذي نظّم عدة فعاليات حول "الهايكو" في "دمشق" بين عامي 2016 و2018 حول كتبه المطبوعة: «أصدرتُ أول كتاب هايكو عربي ورقي عام 2016 عن دار المؤلف اللبنانية بالمشاركة مع "ربيع الأتات"، وصدر منه عددان آخران في "سورية" في العامين التاليين، ثم توقفت السلسلة بسبب وباء كورونا، وأصدرتُ كتاب "رقصة الهايغا مع الهايكو"، ويتضمن خمسين نصاً من نصوص الهايكو عام 2018».

ويرى د"زكريا" أن هذا النوع الشعري حظي باهتمام واسع بين جميع الشرائح والفئات العمرية، وأنه حين فكّر بالاستفادة من مزايا "فيسبوك" لإنشاء مجموعة "الهايكو سورية" لم يكن أحد يعرف به تقريباً، وأنه قد توقع انتشاره لكن ليس إلى هذه الدرجة الكبيرة، وباعتقاده فإن السبب هو جاذبيته كفن أدبي ساحر مختزل يجعل كل من يقرؤه يحبه ويحاول أن يكتبه، حتى أصبح له عشرات آلاف الهواة.

وبحسب د."زكريا" كان لا بدّ لهذا التطور الأفقي أن يفرز تطوراً عمودياً وأن يواكبه النقد والتحليل والدراسة، مبيناً أثر وسائل التواصل أولاً والمطبوعات والكتب الإلكترونيّة والفعاليات الخاصة بالهايكو ثانياً.

من اليابانِ إلى العالم

بدأ "الهايكو" بحسب د."زكريا" بالانتشار من" اليابان" عبر الترجمة إلى اللغات اللاتينية ومنها غالباً انتشر إلى العالم العربي وحول ذلك يقول: «هناك هايكو عالمي موزون ومقفى ونحاول كتابة هايكو عربي موزون، لكننا لم نبلور بعد جميع الأوزان المحتملة له، ومعظم النصوص العربية الجيدة حتى اليوم ليست موزونة لكن لها إيقاع داخلي (إيقاع المفردات العربية بحد ذاتها وإيقاع الهايكو ككلّ) مما يجعل للهايكو العربي الجيد موسيقا خاصة به».

ويذكر لنا بعض النصوص من تأليفه، موزونة على مقاطع صوتية 5، 7، 5.

حتّى بالقمَر

تُوشِكُ أن تُطيح

ريحُ الشَّمال

بائعٌ جَوّال

الدُّميَةُ الرَّخيصَة

في مهَبِّ الرّيْح

السّهلُ الممتنع

من القراء تواصلنا مع "ملك عربي كاتبي" وهي طالبة جامعية تقول: «تعرفت على هذا النوع الشعري مؤخراً، جذبني بما يحمله من المعاني الاستنتاجية، هو يعبر عن الأحاسيس العميقة ويمكنني وصفه بالسهل الممتنع فهو مختصر لكنه شامل للمعنى ويعبر عنه ككل، استمتعت كثيراً بقراءة نصوص الهايكو لأنه شعر لا يشبه أي نوع شعري آخر، وهو فن جديد بالنسبة لي لم أسمع عنه من قبل».

من جهته "فراس حمدان" شاعر هايكو يقول في حديثه لمدوّنة وطن: «بدأت بكتابة الهايكو في نهاية عام 2017 وقد تعرفت عليه صدفة عن طريق شاعر عراقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ثم انضممت إلى مجموعة "الهايكو سورية" التي أسسها الشاعر د."سامر زكريا"، ومجموعة "الهايكو العربي" التي أسسها الشاعر والمهندس "محمود الرجبي"».

ويتابع: «أعجبني هذا النوع من الشعر لأنني كنت بالأساس أجرب النصوص النثرية والشعرية المختزلة ووجدت أنني أستطيع أن أقدم عن طريقه نصاً مختزلاً ومكثفاً له مراميه البعيدة، وأعتقد أن الهايكو العربي ما يزال في طور التجربة فقد وصلنا متأخراً وأكثر ما يعوقه هو المجاز والفهم الخاطىء له كما أن المؤسسة الأدبية الرسمية لم تعترف به حتى الآن خصوصاً في "سورية"».

ويذكر لنا من أشعاره في الهايكو:

شجرة العليق المحترقة

للمرة الأولى

لا تؤلمني أصابعي !

خصوصيةٌ شعرية

يرى "حمدان" صاحب ديوان "أكواز الصنوبر" الجاهز للطباعة، أن الهايكو أساساً هو نوع من الشعر "الصيني" كان مقتصراً على طبقة الرهبان والفلاسفة حتى وصل إلى" اليابانيين" الذين قاموا عبر مجموعة من المعلمين الأوائل بتطويره ووضع مجموعة من القواعد والضوابط له، وأنه مرّ بعدة مراحل إلى أن وصل إلى العالم وانتشر بسبب خصوصيته وقدرته البلاغية.

ويعتقد "حمدان" بأن نسبة تفاعل المتلقي "السوري" مع هذا النوع الشعري ضئيلة ومخيبة للآمال لكثير من الأسباب فالمجتمع "السوري" أساساً هو متابع للأصناف الأدبية المطروقة والمعروفة فكيف بالنسبة لنوع أدبي جديد!.

"حمدان" صاحب عدة مشاركات في أكثر من ندوة شعرية في "مصياف" و"بانياس" وأحد شعراء الهايكو المشاركين في مهرجان "الهايكو السوري الأول" في "دمشق"، وهو "آدمن" في مجموعة "الهايكو سورية" يقول: «قمت بكثير من التفكيك الجمالي والإبداعي ودراسة كثير من النصوص المهمة لنخبة من الهايغن العرب مثل د."سامر زكريا"، "حسن رفيقي"، "عبد الحق موتشاوي"، "ديانا الأسمر"، "منال قاسم" و"ربيع الأتات"، وأرى بأن انتشار شعر الهايكو قد تعزز بتوفر وسائل التواصل الاجتماعي التي استطاعت فرض هذا النمط وإيصاله إلى المتلقي ولو أن التفاعل ما يزال دون الطموح، كما أعتقد أن الشعراء الشباب لمسوا بهذا النوع الشعري القدرة على الإيصال بشكل مكثف فالزمن وتسارعه وتطور الحياة فرضت حضور الاختزال والتكثيف والهايكو هو ذلك الفن».

نشير إلى أنّ اللقاءات جرت بتاريخ 21 تشرين الأول 2021.