في وقوفها الأول أمام كاميرا التلفزيون، لم يكن لديها وقتٌ كافٍ للتدريب، فالحاجة إلى وجود نشرتي أخبار باللغتين الإنكليزية والفرنسية خلال حرب 1973 فرضت على الإعلامية منى كردي الانتقال من الإذاعة إلى التلفزيون، تستحضر تلك اللحظات كما لو كانت تعيشها اليوم، فهي لا تعرف بالضبط إلى أيِّ عدسة يجب أن تنظر، يضحك المصوّر حين يقول لها "انظري إلى جهة الضوء الأحمر وابدئي". بدأت كردي مشوارها الإعلامي في إذاعة دمشق في القسم الفرنسي 1968، محررة ومذيعة لنشرات الأخبار إضافة إلى إعداد وتقديم عدد من البرامج الثقافية، تذكر منها "قصة الأسبوع، "في الصحافة الأجنبية"، "القضايا العربية"، "امرأة أين أنتِ الآن؟"، "ما يطلبه المستمعون" من الأغاني الفرنسية، والذي مهّد لاحقاً لبرنامجها الشهير "نجوم وأضواء".

تقول كردي في حديها لـ "مدوّنة وطن": "في الحرب كان مطلوباً منا تحرير نشرة أخبار وتقديمها للأجانب الذين لم يغادروا البلد، مسؤولية كبيرة جداً، لم يكن لدينا وقت يسمح بتحرير البيانات العسكرية الواردة إلى التلفزيون، وحين قُصِف المبنى عشت لحظات صعبة". في ذلك اليوم، جاءت التوجيهات بمغادرة النساء لكن كادر القسم الفرنسي لم يكن فيه مذيعون أصلاً. تضيف كردي: وصلت البيت بحالة يُرثى لها، جلست لدقائق مع والدتي وتواصلت عبر الهاتف مع الإذاعة السرية، سألتُ المدير: "كيف ستقدم النشرة الفرنسية والمذيعات جميعهن في بيوتهن؟"، قال لي "لا يمكن أن نجبر أحداً على القدوم في حظر التجوّل المفروض.. الأمر يعود إليكِ"، عدت يومها وقدمت النشرة، لكن لم ينته الأمر هنا، ففي الأيام القادمة كان علينا العمل رغم وجود صواريخ سقطت ولم تنفجر في مبنى التلفزيون.

في حرب الاستنزاف أوفدت الإدارة كردي إلى هولندا لحضور دورة في إعداد وتقديم البرامج التلفزيونية، وهي الفترة التي انتقل فيها البث من الأبيض والأسود إلى الملوّن، لتعدّ وتقدّم بعد عودتها برنامج "أنغام وصور من العالم"، تلاه برنامج "فلاش" بثلاث لغات، ثم ارتأت إدارتها استثمار نجاحه بإطالة مدته والاكتفاء بتقديمه بالعربية فقط تحت اسم "نجوم وأضواء". تقول للمدوّنة: أردت تعريف الجمهور السوري بعادات وثقافات مختلفة لكن عندما حقق البرنامج حضوراً كبيراً، تواصلت عدة دول معنا للتصوير فيها عبر اتفاقيات لتبادل البرامج منها "بولونيا، فرنسا، إيطاليا، روسيا، بلغاريا". خلال 11 عاماً، كان البرنامج يسعى لتقديم كل جديد لمشاهديه، وهو ما جعله مُتابعاً ومطلوباً، تؤكد كردي: خرجتُ عن المألوف بالتقديم جالسة كما كان مُعتاداً، لم أقرأ من ورقة، حاورتُ الجمهور بدل الإملاء عليه، خرجنا ككادر من الاستديو ثم من مبنى التلفزيون، فيما بعد من سورية إلى العالم.

من الجيل الذهبي للتلفزيون

حاورت منى كردي في مشوارها رؤساء وأدباء وفنانين، اعتمدت في لقاءاتهم على سرعة بديهتها في الرد والاستنتاج، لكن هل كانت شخصية الضيف تطغى أحياناً على المساحة المتاحة للمُحاوِر؟. تجيب: لا مشكلة لدي في هذا، بالعموم أيّاً كان الضيف فالمقابلة ستعطي الإعلامي غنىً وفائدة، لكن يجب أن يدرك بأن الضيف هو الأهم هنا، ويجب أن يعرف بالمقابل ما الغاية من الحوار وما الذي يجب معرفته من معلومات وآراء وأفكار من خلال هذا الضيف، تعلّمتُ كيف أستعد لأي حوار عبر التحضير الجيد والابتعاد عن الاستفزاز المُتبع من قبل البعض، والأهم عدم تلقين الضيف الإجابة أو التلميح إليها.

تُؤمن كردي بأن النجاح في التلفزيون يقوم على الحضور المدروس، فمع أن مذيعاتٍ كثيرات كن أجمل منها لكنهن لم يكن أكثر نجاحاً، ويُخطئ من يظن بأن الحضور يتقدم على قيمة المادة الإعلامية المقدّمة. تقول: الابتسامة مطلوبة من المذيعة فلكل إنسان همومه لكن هذا لا يعني مبالغة في اللباس والمكياج، الناس ترى نفسها فينا كمذيعين ومذيعات، ولا سيما في مرحلة شبيهة بما نعيشه حالياً، يجب أن تكوني مع الجمهور كضيفة يوميّة لا تتعامل بفوقية، في هذه الناحية يعيش البعض صراعاً بين أن يكون نفسه أو ما يريده الناس، وهي معادلة ليست سهلة، شخصياً كنت أقرب لما يريده الجمهور.

ذكريات العمل لا تنسى

سافرت منى كردي إلى إسبانيا بعد أن اختارت العائلة، وعلى حد قولها "التلفزيون لن يدوم.. خفتُ أن أصبح وحيدة.. والمجد في الإعلام ليس إلا نقطة على السطر". هكذا تركت كردي الإعلام في أوج نجاحها لكنها تحررت من قيود كثيرة، تضيف: عندما سافرت كنت أنا فعلاً، توقفت عن التصرف كما هو مفروض، شعرت بتوازن أكبر، دائماً كان الكل يتحدث عن الإعلام والبرنامج، كنت أشعر بنقص ما، أنا لست روبوتاً وفي حياتي أشياء أخرى.

خلال دورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها إسبانيا، عملت كردي مراسلة للتلفزيون السوري، وفي التسعينيات عادت إلى سورية، وعُرض عليها العمل في عدة مؤسسات لكنها حسب تعبيرها "لم تجد عائلتها الإعلامية" حتى إن الغياب لم يقتصر على الأسماء القديمة بل طال روح العمل أيضاً، فكانت لها تجربة وحيدة في برنامج تلفزيوني بمناسبة عيد الميلاد، ضمن ظروف غير مناسبة للعمل، كان النقطة الأخيرة في مشوار حافل لتبدأ خطوات جديدة عام 1999 مع منظمة الهلال الأحمر السوري كمستشارة اجتماعية ثم مديرة مشروع للاجئين وناطقة رسمية للمنظمة حتى عام 2018. عن هذه التجربة تقول للمدوّنة: المجد الذي يحققه الإعلام غير موجود في العمل الإنساني، لكن الإصغاء للآخر وفهم احتياجاته أمرٌ مشترك عايشته في كليهما، ابتسامة لاجئ تكفي بالنسبة لي.

المخرج أسامة الروماني رافق الإعلامية كردي في عدة برامج تلفزيونية، يقول عن تجربتهما: لن أدعي أننا كنا الأفضل لكن بلا شك كنا متميزين، ولـ "منى" فضلٌ كبيرٌ فيما حققناه، فهي شخصية ساحرة، متمكنة، جريئة، تعلمت منها كيف أكون متواضعاً أمام الكبار، مغروراً أمام الصغار، كيف أتناول عملي بنضج ومسؤولية حتى لو لم أكن مُراقباً، كيف أميّز بين الجيد والأقل جودة، لكن أبداً ليس بين السيئ والأقل سوءاً، علمتني أننا نستقبل الناس بملابسهم ومظهرهم ونودعهم بألسنتهم وعقولهم، لا أبالغ لو اعترفت أن في كل ما أقوم به الآن بعض من تلك الأيام التي تشاركنا فيها "منى" وأنا الأحلام في تحقيق برنامج يشبهنا ونشبهه، اليوم أنظر إلى ما أنجزَته فيكبر قلبي لأن الأحلام لا تتوقف عند حد ولأن النجاح لا يكون أبداً وليد الصدفة والحظ.