لم تكن سنوات الحرب العجاف على "سورية" لتمر دون أن تلقي بظلالها الثقيلة على المعالم الأثرية المنتشرة في كل المدن والمناطق التي طالتها يد "الإرهاب" الآثمة تدميراً ونهباً وتخريباً، ما استوجب التحرك سريعاً من قبل الجهات المعنية لحماية هذه المعالم بشتى السبل الممكنة والنأي بها عن آثار القصف والتخريب.

"الإله حدد" بآمان

في "حلب" الشهباء وفي قلعتها التي عاشت حصاراً طويلاً وثقيلاً خلال سنوات الحرب، لم يغب الخوف على المعالم الأثرية في القلعة عن ذهن حاميتها التي لم يتأخر عناصر هذه الحامية في البحث بكل السبل لحماية هويتها وتاريخها، وقد أخذ معبد "الإله حدد" حيزاً من اهتمامهم وشاركهم الاهتمام المصور "شادي مرتك" الذي اعتاد دخول القلعة عبر أنفاقها وهو المكلف من مديرية الآثار والمتاحف بتوثيق أضرارها ومحيطها.

حاولنا إخلاء المتحف بشكل كامل كما جرى في "دير الزور" و"السويداء" و"درعا" و"حمص"، واستمر عملنا هذا إلى ما قبل دخول تنظيم "داعش" الإرهابي إلى مدينة "تدمر" وكان ذلك في 21/5/2015، لم يكن هذا الخيار سهلاً ولكنه كان حتمياً لما لهذه المعالم الآثرية التّدمرية من أهمية وقيمة كبيرتين، ويمكن القول إننا استطعنا حماية جانب كبير من الطابع التراثي التّدمري الفريد المشهور عالمياً، إلا أن عملنا لم يأخذ البعد الذي أردناه، بسبب تعذر إخلاء الكثير من المعالم ذات الحجم الكبير، وكان تخوفنا في مكانه فقد لحق بهذه المعالم الكثير من التدمير والتخريب، كما حصل مع تمثال "أسد اللات" الموجود أمام مدخل المتحف الوطني في المدينة القديمة، و"قوس النصر" و"المسرح"، و"معبد بيل"، و"معبد بعل شمين"، كما تعرضت القلعة العربية قلعة "فخر الدين المعني" لأضرار كبيرة جداً

ذكريات تلك الأيام وتفاصيلها لا تزال ماثلة في ذهن المصور "مرتك" الذي يروي تفاصيلها لموقع مدوّنة وطن: «يقع معبد "الإله حدد" في نقطة منخفضة من القلعة، تتناثر فيها حجارته الضّخمة المقاربة للعشرين في عددها والمختلفة في قياسها، حيث تتراوح أطوالها بين متر واحد ومترين، وعرضها بين الخمسين والخمسة والسبعين سنتمتراً، وسماكة عشرين سنتمتراً، وقد أبعدت القذائف والقصف المتكرر على القلعة حينها، الألواح المعدنية التي كانت تغطيه لتحميه.. لقد قمت بإطلاع الدكتور "أحمد ديب" مدير الآثار والمتاحف حينها، على واقع حال "الإله حدد" فأوعز لي بالبحث عن أفضل السبل لحماية هذا المعبد، ولم يكن خيار إنزال المعبد من القلعة ممكناً فكان خيار الردم أجدى، فتكفّلت بشراء الأكياس، والعبور بها خلال الأنفاق التي اعتدتها، وبادر رجال الجيش للمساعدة، وقمنا بملء هذه الأكياس بالرمل ووضعناها بمحيط المعبد لحمايته، ولا يزال المعبد مردوماً في قلعة حلب بأكياس الرمل هذه إلى الآن».

أسد اللات إلى دمشق

في مدينة "تدمر"

أسد اللات بزيارة في دمشق

وفي مدينة "تدمر" التي طالتها أيادي التنظيمات الإرهابية المسلحة، كان الخوف على آثار المدينة ومعالمها، يشكل الهاجس الأكبر، وهو ما دفع مديرية الآثار والمتاحف للتحرك سريعاً لإخلاء مجموعة كبيرة من القطع الأثرية في المدينة إلى متحف "دمشق" الوطني، حيث جرى حينها نقل حوالي 400 تمثال نصفي بالإضافة إلى حوالي 400 قطعة مختلفة الأشكال والأنواع، تشكل ما نسبته 30% من مقتنيات متحف المدينة، وكما العادة وأثناء نقل القطع الأثرية للمتاحف السورية تمّ اختيار أمهات القطع أولاً، ثم القطع التي تليها بالأهمية لأن إمكانية النقل كانت صعبة جداً بحكم الظروف المضطربة في المنطقة حينها.

يشير الدكتور "أحمد ديب" مدير مركز الباسل للبحث والتدريب الأثري حالياً إلى تفاصيل تلك الفترة العصيبة بالقول:«حاولنا إخلاء المتحف بشكل كامل كما جرى في "دير الزور" و"السويداء" و"درعا" و"حمص"، واستمر عملنا هذا إلى ما قبل دخول تنظيم "داعش" الإرهابي إلى مدينة "تدمر" وكان ذلك في 21/5/2015، لم يكن هذا الخيار سهلاً ولكنه كان حتمياً لما لهذه المعالم الآثرية التّدمرية من أهمية وقيمة كبيرتين، ويمكن القول إننا استطعنا حماية جانب كبير من الطابع التراثي التّدمري الفريد المشهور عالمياً، إلا أن عملنا لم يأخذ البعد الذي أردناه، بسبب تعذر إخلاء الكثير من المعالم ذات الحجم الكبير، وكان تخوفنا في مكانه فقد لحق بهذه المعالم الكثير من التدمير والتخريب، كما حصل مع تمثال "أسد اللات" الموجود أمام مدخل المتحف الوطني في المدينة القديمة، و"قوس النصر" و"المسرح"، و"معبد بيل"، و"معبد بعل شمين"، كما تعرضت القلعة العربية قلعة "فخر الدين المعني" لأضرار كبيرة جداً».

معبد بعل شمسين

رحلة "أسد اللات"

يتابع الدكتور "ديب" شرحه لتفاصيل العمل في نقل آثار" تدمر" ويقول:«مع تحرير المدينة في 27/3/2016 وفي اليوم الثاني حطت رحالنا في "حمص" لنترافق مع زملائنا في مديرية آثار "حمص" إلى مدينة "تدمر" وبحوزتنا معداتنا وتجهيزات عملنا، وبدأت جولتنا التي نسقنا لها مع كل الأطراف من المحافظة والجهات الأمنية وعناصر الجيش وانطلقنا للعمل بين ألغام يقارب عددها الألفين، ووقفنا على توثيق الأضرار التي حلت بالمدينة القديمة، وقمنا بإخلاء شبه تام لمقتنيات المتحف ومستودعاته بشكل علمي من خلال جمع القطع المكسّرة والمتضررة، ونقلها إلى متحف "حمص" ومتحف "دمشق" بحسب أهميتها وحاجتها لأعمال التّرميم، وعلى باب متحف "تدمر" قمنا بجمع الكسر التي تعود إلى تمثال "أسد اللات" وهو تمثال ينتصب بارتفاع 3.5 أمتار، ووزن 15 طناً وهو محفور بأحجار جير مربعة لتصور أسداً يحتضن غزالاً جاثياً يرمز للعطاء والمحبة، حيث كان سفك الدماء محرماً ثأراً للات وذلك حسب ما أشارت إليه نقوش تدمرية على مخلب الأسد الأيسر المتضرر جزئياً فالأسد هو رسول الآلهة إلى البر، وحامي اللاجئين إلى معبدها».

إنجاز المهمة

ويضيف "ديب": «تضاربت الآراء حول جهة رحلة الإله، هل هي إلى "دمشق" أو" حمص"، فكرنا ملياً في كيفية نقله وهو ذو حجم كبير ووزن ثقيل، وبعد أسبوعين تقريباً أصبح من الضّروري البدء بعملية النّقل، فكانت المحاولة الأولى التي لم نوفق بها، وأعدنا الكرة بعد خمسة عشر يوماً إلا أن العطل الطارئ الذي حل بالآلية أفشل محاولة النقل للمرة الثانية، تابعنا العمل في إخلاء المتحف ولم يغادرنا التّفكير في كيفية نقل "أسد اللات" الرّافض على ما يبدو مفارقة "تدمر" أو الانتقال منها، وهو حامي المدينة ومعبدها، وبات نقل الإله هاجسنا فتابعنا الاستعداد والتّجهيز لذلك مع الأخذ بالحسبان كل الاحتمالات التي يمكن لها أن تعطل عملية النقل للمرة الثالثة.

تمّ إحضار رافعة وبلدوزر من النوع الكبير جداً لنقل وتحريك التّمثال إلى الناقلة، وبعد ساعتين من العمل بدأ مسيرنا إلى "دمشق"، وعملنا على تخطي كل العقبات التي واجهتنا في رحلتنا إلى أن وصلنا "المتحف الوطني" وأنهينا العمل بأكمله الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي، لتبدأ فيما بعد أعمال التّرميم من قبل خبراء بولونيين قاموا بعمل ترميم سابق لهذا التّمثال أثناء وجوده في "تدمر" ليعيدوا الكرة في متحف دمشق الوطني».

إجراءات احترازية

الظروف التي كانت سائدة حينها فرضت نمطاً من التعامل مع المعالم الأثرية من قبل القائمين عليها، بغية حمايتها من آثار التدمير والتخريب، وتوثيقها منعاً من ضياعها، وحسب قول مدير قصر العظم "ميساء ابراهيم": «كان العمل قائماً على موضوع توثيق القطع المتحفيّة في سورية، وبذلك أصبح أمناء المتاحف معنيون بتسجيل القطع غير المسجلة، وتصويرها وتُوثيقها ورقياً ليصار بعد ذلك لتثبيتها على برنامج توثيق متحفي إلكتروني، كان العمل سابقاً يجري بالتنسيق مع مديرية تقانة المعلومات، حيث كان يمكّن لأي باحث في أي مكان بالعالم الإطلاع على أي قطعة لدينا بأبعادها الثلاثية مع بياناتها كاملة، إلى أن جاءت الأزمة وأوقفت المشروع، وجاءت الإجراءات الاحترازيّة التي تقضي بتفريغ القطع الأثرية ومنها قطع "قصر العظم"، فكان أن غلّفنا ونقلنا القطع النّادرة مثل قاعة "الملك فيصل" والحلي والقطع الزّجاجية وفق مراحل مدروسة وموثّقة بالصور وجرى العمل في ظروف لم تخلُ من القصف، ولكنها لم تمنع أي فرد من أفراد أسرة القصر من القيام بتفاصيل هذا العمل بدقة واهتمام دون توانٍ أو كسل أو خوف على أنفسهم، دافعهم في ذلك حماية هذه الثروة الوطنية من أيدي الغدر التي قد تنالها من تدمير أو سرقة ونهب، فهم مدركون كل الإدراك أهمية هذه النفائس وهذا العمل الذي يقومون به».