هو فنان عالمي، دمشقي الهوى، عكسَ في فنه إيمانه بالحياة والإنسان والحرية والمقاومة، وترك وراءه إرثاً غنياً جمع الإصالة إلى الحداثة دون ادعاء فكانت لوحاته ومازالت نابضة وصارخة بالحياة وصورها.
من "سوق ساروجة" في قلب دمشق القديمة حيث ولد في 15 أيار عام 1932 إلى "بون" العاصمة الألمانية حيث توفي، حكاية عمرٍ قلقٍ قضاه الفنان التشكيلي "برهان كركوتلي" متنقلاً بين العواصم والمدن حاملاً ريشته وأقلام حبره الصينية يرسم حيث ألقت به عصا الترحال، ويترك وراءه لوحاته ورسوماته على أغلفة الكتب والمجلات والبوسترات والمعارض وفي مختلف دول العالم وآخرها كان المكسيك حيث قدم العديد من أبرز أعماله عالمياً.
تتميز لوحات "كركوتلي" بأنها ذات شخصية متفردة، لها ملامحها التي لا تخطئها العين، استلهمها من الرسوم الشعبية العربية والمنمنمات الإسلامية وطرزها بالكتابات العربية وأبرز ملامحها كان الخطوط الصلبة والألوان الشفافة الصافية التي كان يعدها فوق الخطوط بكثير من الحذر
يتحدث الفنان التشكيلي "نعمان عيسى" من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عن تجربة الفنان "كركوتلي" في حديث لمدونة وطن eSyria بتاريخ2/10/2013 فيقول: «يعتبر الفنان كركوتلي فنان الرسوم الشعبية الأول في العالم العربي أو ما يسميه النقاد الفن الساذج "الناييف" وقد أطلق عليه الفنان "سعد الخادم" في مصر فن "تلقائية الكبار"، ويتميز بعدم التقيد بأية قواعد ثابتة في الرسم، هنالك فقط بعدان في اللوحة ويغيب الظل والحجم كلية عن فضاء اللوحة، وكل عنصر يرسمه الفنان كركوتلي يمتد بكامل مساحته على اللوحة وفي أي موقع وجده على اللوحة».
ويضيف الفنان "عيسى": «تتميز لوحات "كركوتلي" بأنها ذات شخصية متفردة، لها ملامحها التي لا تخطئها العين، استلهمها من الرسوم الشعبية العربية والمنمنمات الإسلامية وطرزها بالكتابات العربية وأبرز ملامحها كان الخطوط الصلبة والألوان الشفافة الصافية التي كان يعدها فوق الخطوط بكثير من الحذر».
أنهى الفنان كركوتلي دراسته الثانوية في دمشق وانتقل إلى القاهرة لدراسة الفنون عام 1952 وقبل كطالب نظامي في المعهد العالي للفنون الجميلة كما يشير الفنان الدكتور "غازي الحسين" من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق أيضاً، ويتابع قائلاً: «كان مشروع تخرجه من المشاريع النادرة في تاريخ الكلية، فقد كان عن شريحة اجتماعية مريضة وخطيرة وتقبع في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، والمفاجأة كانت أنه نال درجة الامتياز بمرتبة شرف على مشروعه الذي ضم أعماله التعبيرية التي عكست بكثير من الصدق المعنى الحقيقي لحياة هؤلاء الناس».
تخرج في القاهرة عام 1958 وانتقل إلى مدريد ثم ألمانيا للعمل، ثم سافر إلى المغرب وعاش هناك عشر سنوات متواصلة، وهناك بدأت رسوماته تشق الصفوف وتترك آثارها، رسم اللوحات الأكثر شهرة بالأبيض والأسود وأغلب موضوعاتها كانت تتناول رصداً للحياة الاجتماعية والسياسية وقتها فرسم فلسطين بكثافة والحرمان والجوع والبطالة في عدد غير قليل من أعماله.
يتحدث الدكتور "غازي الخالدي" عن تجربة برهان كركوتلي في ألمانيا حيث استقر هناك بدءاً من عام 1969ولفترة طويلة وتزوج فيها فيقول: «في عام 1971 انتشرت صورة عن لوحة منفذة بالحبر الصيني للفنان كركوتلي عرضت في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب بأكثر من عشرة آلاف نسخة عمت العالم الغربي وتمثل فتاة ترتدي الزي الفلسطيني وبشكل يشبه وقفة زنوبيا، وتلك اللوحة ما زالت إلى اليوم الأكثر مبيعاً حول القضية الفلسطينية».
كما أن أغلبية أعمال الفنان كركوتلي حولت إلى ملصقات وبطاقات سافرت إلى انحاء العالم فهو فنان استلهم تجربته من موروثه الشعبي العربي وبلغة فنية تماهت فيها المعاصرة بالتراث توجه بها إلى العالم لنقل قضايا عصره النبيلة، كما يشير الدكتور "محمود شاهين" في حديث عن الفنان كركوتلي.
في أسلوب "برهان كركوتلي" تميز واضح في الناحية الأسلوبية، يتحدث الدكتور "غازي الخالدي" ويضيف: «إن برهان يرسم في العمق الإنساني ويتأمل في الفكر المتفرد لكل إنسان ويحاول أن يعكس كل هذه المعطيات بألوان من فصيلة واحدة متدرجة الألوان مع التركيز على الخطوط العريضة الخشنة التي تربط أجزاء كل كتلة على حدة، ولم يهتم يوماً بالتقنية بل إن التعبير الأهم لديه يبدأ من الحركة ثم من الوجه واللون وأخيراً الخط».
نال الفنان كركوتلي جوائز عديدة خلال مسيرته الفنية، أولها كان جائزة الدولة السورية عام 1956 في معرض المتحف الوطني في دمشق، وأبرزها حين شارك مع الفنان العالمي "بيكاسو" في معرض الجرافيك الدولي ونال الجائزة الثالثة عالمياً.
وإضافة إلى الفن التشكيلي عمل الفنان كركوتلي حكواتياً في مدن ألمانيا خلال فترة عقد من سنوات التسعينيات الماضية بسبب الحاجة للمادة والفقر الذي عاش معه طول حياته رغم العروض والمغريات العديدة التي قدمت له والتي كان يرفضها بكل عزة وإباء، وقد أضافت له هذه التجربة التي قدمها باقتدار نابع من حياته الطويلة مع الفنون الشعبية في دمشق وفلسطين أبعاداً فنية تجلت في لوحاته التي رسمها في ألمانيا.
تزوج خلال حياته مرتين وفي الزواج الثاني وهو الأطول تزوج من فتاة ألمانية تدعى "بيتي" بقي وإياها لما يقرب من عشرين عاماً رسمها خلالها بوفاء نادر، وأنجب منها ابناً سماه على اسم ابيه "نديم"، ورحل عن دنيانا في 28/12/2003 وشيع جثمانه في مدينة بون وقد شارك اتحاد الفنانين الأوروبيين في تشييعه إضافة إلى إقامة معرضين للوحاته الأول في بون والثاني في دمشق، وآخر معرض استعادي له كان في مدينة رام الله الفلسطينية العام 2009.