لم يكن إنشاء مبنى السرايا الحكومي على صفاف نهر بردى في أواخر القرن التاسع عشر حدثاً عابراً في تاريخ "دمشق" العمراني، فهذا الصرح الحكومي العثماني ذو الطراز الروماني الكلاسيكي كان باكورة لعدد كبير من أهم المباني الحكومية التي بنيت بعده.

دشّن السرايا الحكومي الجديد عام 1900 بحسب ما ذكره "هولو باشا العابد" وهو ذات التاريخ المكتوب على العمود التذكاري المقام عند سبيل السرايا.

ذكرت لنا والدتي أنها وقفت عندما كانت في السادس عشر ربيعاً من عمرها على درج السرايا الحكومي لتندد بالاستعمار الفرنسي لكونه مثّل في تلك الفترة منبر الأحرار

الدكتور "عبد القادر الريحاوي" الباحث المتخصص بتاريخ دمشق العمراني تحدث لمدونة وطن eSyria بتاريخ 14/2/2013 عن مبنى السرايا الحكومي- مبنى وزارة الداخلية السابق- بالقول: «تمثل السرايا الحكومي الجديد مرحلة من مراحل التطور المعماري لمدينة "دمشق"؛ لكونه لا يمت بصلة للطراز المعماري الدمشقي السائد منذ عصور طويلة، حيث إنه من أهم الأبنية التي حاكت الطراز الجديد فيما بعد قصر العابد، القصر الجمهوري، دار المعلمين، المستشفى الوطني، والثكنة الحميدية، حيث يعد ظهور هذا الفن الدخيل إيذاناً بانتهاء دور الفنون المعمارية الأصيلة وبداية مرحلة الغزو الحضاري الغربي للمشرق العربي.

طراز عمراني مختلف في كل طابق من طوابق المبنى

حيث بنيت تلك الأبنية طبقاً لمواصفات العمارة الحديثة وذلك بإدخال الاسمنت المسلح الذي يعد من أهم مظاهرها، طابق طراز البناء طراز مبنى دار البلدية، وهو الطراز الكلاسيكي المحدث، وقد انتشر في فرنسا انتشاراً واسعاً، وهو طراز مطور ومبسّط عن الروماني القديم، يعد دليلاً على نقل الفنيين الأجانب الطراز المعماري الأوروبي السائد في بلادهم إلى مدينة "دمشق"، والمختلف تماماً عن الطراز الذي عرفته هذه المدينة الإسلامية في العصر العثماني كما هو الحال بناء قصر أسعد باشا العظم، وقصر السعادة، وقصر كنج يوسف باشا».

بنيت السرايا الحكومي بالحجر؛ وفق هندسة مقتبسة عن فن المعمار الأوروبي الذي ينتسب إلى فن الباروك والركوكو، يضيف "الريحاوي": «يمتد مبنى السرايا (بناء الحكومة دار السرايا) من الشرق إلى الغرب على ضفة بردى اليمنى قبيل ساحة المرجة، بشكل مستطيل، خلف دار البلدية على كتف الجزيرة الخضراء ونهر بردى، تعددت تسميات هذا المبنى فعرف بالسرايا الجديدة، بديلاً من سراي الحكومة القديمة لوالي الشام لـ"كنج يوسف باشا"، ويتألف البناء من ثلاثة طوابق، ولقد أنشئ على ثلاث مراحل.

ويقوم على أساسات حجرية صلبة فجدران الطابق الأول من الحجر الصخري المنحوت على شكل قبب، ومكسو من الداخل بالآجر والطينة، يتوسط الكتلة الرئيسية للمبنى، المدخل الرئيس متوج بجملون جميل، ويتقدم المبنى درج للصعود إلى الطابق الأول مؤلف من سبع درجات؛ باب السرايا الرئيس مفتوح في منتصف الواجهة الشمالية الرئيسة يتقدمه رواق مسقوف محمول على سبعة أعمدة من الحجر الكلسي ذات تيجان من الطراز الأيوني حجرها ذو لون سماقي وللطابق الثاني شرفة سماوية بمثابة سطح للرواق المذكور ويوجد جناحان على أطراف البناء يتوسط كل منهما باب جانبي يتخلل واجهة البناء ككل النوافذ متوجة بأشكال مختلفة، ولكل طابق طابعه الخاص.

فالطابق الأول تبدو التأثيرات الإغريقية مسيطرة على شكل النوافذ بوضوح في جميع تيجانها ذات الانحناء الضعيف الهرمي أي (الأقواس القطاعية)، بينما تختلف أشكال النوافذ في الطابق الثاني لتأخذ شكل طراز البناء العثماني والمكون من فتحة نافذة رئيسية وأخرى علوية كمندلون بالإسباني ومتوجة بتاج حجري مسطح، بالإضافة الى بروز الشرفة الكائنة فوق مدخل المبنى وشكل أعمدتها على امتداد الواجهة عدا الجناحين، وتطل هذه الشرفة الطويلة على نهر بردى للاحتفالات الرسمية ولقد امتد هذا الطراز إلى بناء دائرة الأملاك السلطانية المجاورة لبناء السرايا من الغرب وكذلك بناء طبابة المركز المحاذية لدار البلدية.

صورة فضائية لمبنى سرايا الحكومي

أما الطابق الثالث فأخذت أشكال النوافذ الطابع الإسلامي ذات الأقواس نصف الدائرية كما هو متعارف عليه في معظم الأبنية الأيوبية والمملوكية بدمشق كما يبدو على البناء بعض اللمسات الإغريقية (اليونانية القديمة) الظاهرة في الشكل الهرمي لجملون السطح الذي يعلو المبنى الضخم».

وختم "الريحاوي" حديثه بالقول: «المخطط العام للطوابق الثلاث في الداخل يتألف من ممر عريض يمتد على طول المبنى توزعت على جانبيه تسع غرف في كل جانب، ويصعد إلى الطوابق العليا بواسطة درج عريض داخلي يتوسط البناء؛ درجاته من الرخام الأبيض وله "درابزين" من الخشب المزين بزخارف مخرقة.

أقيم أمام باحة السرايا سبيل مؤلف من أربع فساقي وعمود تذكاري من الحجر قائم فوق مدرج؛ وله قاعدة مربعة وتاج مقرنص نحت على أحد جوانب العمود شعار الدولة العلية العثمانية، ونقش على الجانب الآخر شعار الطغراء (الطرة العثمانية التي شُكلت من توقيع السلطان عبد الحميد الثاني الى جانب كلمة غازي) وقد أزيل هذا الشعار في زمن غير معروف.

في العمق من جهة اليمين مبنى دائرة الشرطة والأمن العام المشيد في عهد الوالي حسين ناظم باشا، بعيد تشييد مبنى السرايا بقليل، وعلى نفس طراز عمارة دار البلدية بالمرجة، شغلته (دائرة الأملاك السلطانية) قبل أن يصبح دائرة الشرطة».

السرايا الحكومي لم يكن تحفة عمرانية دمشقية بارعة الجمال فقط، بل كان له دور ومكان في حياة الدمشقيين؛ السيدة "ماريا المالح المفتي" ابنة السيدة "مقبولة الشلق"- أول حقوقية سورية تخرجت في جامعة دمشق-، تحدثت عن والدتها التي خطبت على درج السرايا الحكومي في ثلاثينيات القرن الماضي حيث قالت: «ذكرت لنا والدتي أنها وقفت عندما كانت في السادس عشر ربيعاً من عمرها على درج السرايا الحكومي لتندد بالاستعمار الفرنسي لكونه مثّل في تلك الفترة منبر الأحرار».

من الجدير بالذكر أن مبنى السرايا الحكومي شغل مقر وزارة الداخلية في الجمهورية العربية السورية حتى عام 2010.