في ركن صغير بدمشق القديمة حيث يلتقي سوق البزورية مع نهاية سوق الصاغة القديم يقع دكانه الذي يجذب إليه المارين بابتسامته المتميزة التي لا تفارق وجهه ودعابته التي تجذب انتباه العابرين، إضافة لرشه للعطر على كل من يتوقف ولو لبرهة أمام دكانه.
هو العطار "محمد خير محمد الغبره" الملقب بـ "أبو الخير" والذي يمارس هذه المهنة منذ أكثر من نصف قرن في دكانه، مستخدماً عبارات ترحيب متميزة لا تخلو من اللغات الأجنبية التي يجيد بعضها كالإنجليزية والألمانية والتركية.
طبعاً نحن نبيع الزجاجة بسعر أدنى بكثير من سعرها لو كانت مستوردة
للتعرف على "أبو الخير" ومعرفة حكايته مع العطر وحكاية عائلته الدمشقية التي عرفت منذ عشرات السنين بتخصصها بتحضير وبيع العطور التقاه موقع "eDamascus" حيث قال: «أعمل في هذه المهنة في دكاني هذا منذ عام 1952، وقد ورثت مهنة إعداد العطور وبيعها عن أجدادي الذين كانوا يقطرون الزهور البلدية، وخاصة الورد الشامي والياسمين، وكانوا ينتجون ماء الورد الطبيعي، إضافة لتجفيف الورد الشامي وخلطه مع الأعشاب لتقديم خلطات من الزهور، ومن هنا كانت انطلاقة عائلتي مع العطر، ولكن كان لابد للعائلة أن تطور المهنة مع تطور رغبات الناس وطلباتها من العطور، حيث ازداد الطلب على العطور الأجنبية مثلأً، ما دفعنا إلى تطوير الأنواع المحلية لكي تتناسب مع الأنواع الأجنبية المعروفة من العطور، وهذا سبق سجل لعائلتنا، حيث أصبح أغلب الدمشقيين على معرفة بمهنتنا من خلال ما نقدمه من أنواع أجنبية التي هي من أشهر العطور المعروفة مع نكهة محلية، مصنعة بأيد دمشقية».
يمتلك الآن العشرات من أفراد عائلة "أبو الخير" محلات تأخذ معظمها لقب "الغبرة" تنتشر في أسواق دمشق الراقية والشعبية، ويعتبر "أبو الخير" عميدها الحالي.
وعن تطوير مهاراته ومعلوماته بشكل مستمر قال: «العطور مهنة عريقة وقديمة وأعمل فيها منذ ستة عقود تقريباً، قمت خلالها بتطوير خبراتي ومهاراتي بشكل دائم، وسعيت لاكتساب المعلومات العلمية التي أضفتها للخبرة التي اكتسبتها من أهلي».
وفيما يتعلق بدور منزله في إكسابه مهارة التمييز بين الزهور قال: «لعب المنزل العربي الذي نشأت فيه دوراً كبيراً في تعريفي على أنواع النباتات وتمكيني من التمييز بين مختلف أنواع الأزهار من الوردة الشامية والياسمين والليلك والغاردينا والريحان "الذي تنعش رائحته القلب كما وصفه" وغيرها، إضافة لوجود بحرة ماء وعدد من الأشجار من الليمون والنارنج وغيرها».
وبالنسبة لسرِّ طريقته المتميزة في استقبال الزبائن، قال بابتسامة تعلو وجهه: «هي موهبة من الله، وعادة تلازمني منذ بدء ممارستي للمهنة، وتصحبني في الجلسات الاجتماعية مع الأهل والأصدقاء فدائماً أضحك وأروي النكات، وعندما أبيع زجاجات العطور للزبون أعتبره صديقاً أعرفه منذ سنوات، وأسعى أن يكون مسروراً خلال وقوفه أمام دكاني، ويسعدني أن يضحك حتى لو جاءني مهموماً، وعندما أبيع زبوناً أريده أن يسرَّ وأن تعلو الابتسامة وجهه نتيجة الخدمة التي يتلقاها وجودة المنتج الذي يحصل عليه، وابتسامته تشير إلى أنه زار "أبو الخير" وسرَّ من الزيارة».
ولا يكتفي "أبو الخير" بأسلوبه المميز مع زبائنه فهو لا يتوانى أيضاً عن تقديم النصح في نوع العطر الأكثر ملائمة خاصة للذين لا يعرفون أي نوع يناسبهم لاقتنائه، حيث قال: «كما تختلف طبائع الناس وأشكالهم كذلك تختلف العطور المناسبة لكلِّ فرد، فالأمر يعتمد على شكل الشخص وعمره ومهنته والوقت الذي يريد فيه استخدام العطر، فما هو مناسب للعمل لا يصلح للسهرات والمناسبات الاجتماعية، ويوجد مثلاً عطر صيفي ناعم وآخر شتوي، وواحد للنهار وعطر للمساء».
وعن استخراج العطور قال "أبو الخير": «كانت العطور قبل عدة عقود تستخرج من الأزهار المحلية كالورد الشامي والياسمين والنرجس وغيرها، أما الآن فنعتمد على استيراد الأسانس أو ما يسمى روح العطر للأنواع العالمية المختلفة ونقوم بتحضيرها هنا حسب رغبة الزبون سواء كمية أو كثافة ما يريده من العطر»، وبالنسبة للسعر قال: «طبعاً نحن نبيع الزجاجة بسعر أدنى بكثير من سعرها لو كانت مستوردة».
وعن العوامل التي تحدد جودة العطر وسعره يذكر: «إنَّ ما يحدد جودة العطور وارتفاع سعرها هو نوع المكونات التي استخدمت فيها والزهرة التي استخرجت منها المادة الخام، إضافة إلى عدد المواد التي يتكون منها العطر، فهناك عطور يدخل في إنتاجها أكثر من 50 مادة يتم خلطها معاً، إضافة أنَّ نوع الأسانس المستخدم ونوع الكحول، ونسبة التركيز لها دور في تحديد السعر».
ولدى سؤاله عن أهمية العطور قال: «للعطور قيمة مادية ومعنوية وتمثل جزءاً من الشخصية، لأنها تسهم في إظهار الروح الشخصية والحقيقية لمستخدمها، وللعطور حساسية خاصة من حيث إنها تلفت انتباه الآخرين وتميز الناس عن بعضهم بعضاً، وهي تمثل الأحاسيس وتعبر عن المحبة للطبيعة، وإلى جانب الرائحة الذكية التي تضفيها على الإنسان فهي أيضاً مهمة في تغيير المزاج».
وحدد "أبو الخير" المعوقات التي تواجه المهنة اليوم بدخول أشخاص جدد لا يتقنون أوصولها ولا يملكون مهارة التمييز بين الأنواع المختلفة من الأزهار والروائح، وغياب المصداقية في العمل وانتشار ثقافة الغش والربح السريع.
وعن أهم الشخصيات العربية والأجنبية التي قامت بزيارته ذكرها "أبو الخير" بالقول: «حفيد "تشرشل" الذي اشترى عطر ياسمين وورداً شامياً وغاردينيا، ووزير الخارجية الأميركي السابق "جيمس بيكر"، والمستشار الألماني السابق "غيرهارد شرودر"، والشيخ "جابر الأحمد الصباح" أمير الكويت الراحل، والممثلة المصرية الشهيرة "ليلى علوي"».
والسيد "محمد السيد" أحد الزبائن المتواجدين أمام المحل قال عن سبب اختياره العطور المركبة: «إنني أحصل على العطر الذي يتناسب مع ذوقي، فأحصل على عطري الخاص الذي لا يوجد له مثيل، كما أستطيع الحصول على عطر مطابق للأصل بسعر منخفض جداً».
وعن اختيارها لعطور السيد "أبو الخير" قالت السيدة "بهية الأحمد": «منذ سنوات عديدة وأنا أشترى ما أحتاجه من العطور من أبو الخير لتميزه في إعطاء أنواع تناسبني دائماً، ولخبرته الكبيرة في إعداد العطور».
بقي أن نذكر أنَّ "أبو الخير" يحمل إجازة جامعية من كلية العلوم من جامعة دمشق، وعمل لفترة قصيرة في مهنة التدريس بمدارس مدينة "حمص"، إلا أنه قرر فيما بعد ترك التدريس والتفرغ لمهنة آبائه وأجداده.