نظراً للحالة الخاصة والشائكة التي تمثلها منطقة "جرابلس" الحدودية مع تركيا، ونظراً للخليط الثقافي والديني والقومي والاجتماعي في هذه المنطقة، فقد استطاعت أن تنتج لوناً غنائياً خاصاً بها وخاصة في القرن الأخير، نتيجة لتلك التداخلات الكثيرة في هذه المنطقة.
وعن الأغنية الجرابلسية ما لها وما عليها، وعلاقتها مع الأغنية المحلية المحيطة، كان لمدونة الموسيقا وقفة مع الأستاذ "يوسف الجادر"، الناقد والباحث الموسيقي. حيث أجاب عن سؤال حول السمات الخاصة بالأغنية الجرابلسية، فقال: «من خلال تتبعي واتساع مداركي بعد فترات من الزمن، وهذا أمر طبيعي، تكونت لدي فكرة أساسية، تقول بأن منطقة "جرابلس" حصراً يبدو أنها استطاعت عكس صورة أساسية وشاملة عما يشمل صورة مصغرة عن منطقة سورية أو منطقة بلاد الشام بشكل عام، وهذا لأكثر من سبب، السبب الأول هو تعدد الطائفية والإثنية وتعدد الثقافات فيها نتيجة وجودها أولاً على منطقة حدودية، حدود تركيا، وثانياً كانت ملجأ للكثير من القوميات التي جاءت وأهمها الأرمن، وهذا شكل ذاكرة عند الإنسان الجرابلسي في تلك المرحلة، من بدايات القرن الماضي، بدأت تتشكل لديه ذاكرة موسيقية مختلفة ومتمايزة، تشبه إلى حد ما موشحات القدود الحلبية، وتذهب إلى أبعد من ذلك عبر منطقة نهر الفرات، باعتبار أنه يدخل من سهلها، فكان في هذه الأغنية والذاكرة اتجاه ثقافة الغناء الفراتي، وبالمقابل تأثر المنطقة الحدودية، أي تأثر الأغنية السورية باتجاه أثر الأغنية التركية والموسيقا التركية، فكانت الأغنية الجرابلسية التي هي انعكاس لهذا التعدد، وبالتالي هي لا تشبه أي أغنية في منطقة تبعد عنها تقريباً 30-35كم، إلا أنها تتميز عنها، نتيجة هذا التنوع».
أيضاً هناك نوع آخر من أنواع الغناء الشعبي، وهو الغناء المرتبط بالعمل، نتيجة الأرض والفلاحة والزراعة والحصاد، كله صنفته بتصنيفات متعددة، وأعطيت لكل نوع حقه بالبحث والإلمام
وتابع حديثه: «هذا التنوع، وهذه الأغنية، شكلا لدي الدافع- على الأقل- أولاً لجمع التراث الغنائي، وثانياً العمل عليه على أساس أنها مواد خام، أي إنني أريد أن أعطي الأغنية الجرابلسية (مفردات أو أغنية أو كلمات)، أريد عملها دون أن أبعدها عن أي نص شعري آخر، لأنها تحمل كل الدلالات الجمالية التي فيها، إلا أنها مغناة أو مقولة بلهجة شعبية، وبلكنة معينة، لأنها جمالياً أراها لا تختلف من الناحية الدلالية عن أي نص آخر، وهذا ينطبق أيضاً على أغلب الغناء الشعبي في سورية، إلا أن جرابلس لها خصوصية، وهنا تختلف الأغنية الجرابلسية عن غيرها بالخصوصيات».
وأضاف: «أستطيع سؤال نفسي: لماذا للأغنية الجرابلسية خصوصية، بينما أغاني أخرى لها خصوصية ليس فيها هذه السمات؟، إذا أردت أخذ الأغنية الحلبية، فالأغنية الحلبية لها جذر عملت عليه وبدأت تتطور حتى وصلت إلى هذا النوع، وكذلك الجدل السرياني، والأغنية الشعبية السريانية، تطورت من الكنيسة لتأخذ فيما بعد شكل القد وشكل الموشح، المتمايز المختلف عن الموسيقا أو الأغنية أو القد العربي بشكل عام، لذلك "جرابلس" لها هذه الخصوصية، قد تجد أغنية في "جرابلس" تشبه إلى حد ما هذا القد الحلبي، نتيجة تواجد السريان والكنيسة السريانية، وقد تشبه المقام العراقي، نتيجة تواجد الفرات والثقافة الفراتية، وقد تجد شيئا يشبه الأغنية الجزراوية، نتيجة أنها على الضفة اليمنى من منطقة الجزيرة، فمجرد أن تم قطع نهر الفرات نصبح في الجزيرة، ولذلك هناك اقتراب وارتباط بها، هذا ما جعل لدي هذا الحافز، لأن أجمع تراثها الموسيقي وأعمل بالأغنية الشعبية في "جرابلس" حصراً».
وطرح وجهة نظره في مواصفات الشخص الذي يريد البحث في هذا الاتجاه، بالقول: «أعتقد أن البحث في الأغنية خاصةً، يمكن أن يكون البحث في التراث، والتراث فضاؤه أوسع، قد تأخذ الصناعات والحرف والمأكولات الشعبية، وهذا يحتاج أيضاً لفريق عمل، لأن يجمع ويميز ويعطي الأنواع والتصنيفات..الخ، وقد يكون هذا الشكل فضاؤه أعم وأشمل، أما بالأغنية الشعبية باعتبارها شفاهية ومتواجدة في صدور الناس الحفظة الموجودين (الأحياء)، فهنا يوجد صعوبة، الباحث في الأغنية الشعبية يجب أن يكون لديه ميزتان، الميزة الأولى امتلاك ذاكرة معقولة، حتى إنه يستطيع تحفيز هذا الحافز للتراث الغنائي، بقوله إن هناك أغنية معينة، وثانياً يجب أن يتسلح بأدوات معرفية على الأقل تمايز بين الأغنية والموال وبين المقام، أي الثقافة الموسيقية، فهاتان الأداتان المعرفيتان تجاه البحث يجب أن تتواجد لدى الباحث الموسيقي، هذا من ناحية البحث، ومن الناحية الأخرى أهم ميزة في أي عمل وخاصة في هذا العمل، أعتقد أنها الحب، الحب بالمعنى العام، فأحدنا إذا أحب مسألة يبدع فيها، ويصل بها، والرحابنة من حبهم أوصلوا إبداعاتهم لكل العالم، نتيجة حبهم لتراثهم الغنائي، فالأغاني التي كنا نسمعها سمعناها من الرحابنة بشكل مختلف، لذلك هذا الحب اتجاه هذا الغناء الشعبي، هو الذي يجب أن يمتلكه الباحث في مجال الأغنية الشعبية».
وعلق على الأهمية البحثية للباحث الذي يعمل على إبراز لون غنائي أو موسيقي موجود بين عدة آلاف من الناس: «هذا مهم أولاً كقيمة معرفية، لأجيال قادمة تجد بذاكرتها هذا التراث، المسألة الأهم باعتقادي من وراء هذا الشكل، إذا أردنا الحصر بين مجموعة من آلاف الناس لتحقيق هويتهم التراثية، نكون أخذنا الموضوع من الناحية الضيقة، أنا أعتقد أن المسألة أكبر من ذلك، فالمسألة تتعلق أولاً وأخيراً بأهمية هذا التراث الغنائي، وتكمن بأنه هوية، دائماً أستشهد بقول: من ليس لديه تراث ليس لديه هوية، هذا من ناحية، ومن جهة أخرى في نفس الإطار الذي يعمل عليه، أنه للأسف هناك جيل الآن منقطع انقطاعاً كلياً عن هذا التراث، طبعاً لأسباب عديدة لا أستطيع حصرها الآن، وأهم سبب هو دخول التكنولوجيا اتجاه ثقافة الناس وذاكرة الناس وتداولها مع أفراحها وأتراحها، لماذا بقيت الأغنيات تتداول هنا، عندما كانت مرتبطة بأعراس الناس، بتعاليم الناس وسهراتهم، وهذه انقطعت، الأعراس أصبحت مبتذلة، إذا قارناها بالتراث، أصبحت أكثر ديكورية ولكن فارغة من المضمون، هي تشبه أي عرس آخر في أي مكان آخر في العالم، إلا أنها لا تشبه المكان، فلذلك أراها مبتذلة، العرس أصبح له عاداته التي أصبحت تتماهى مع ما يقدره التلفاز، بينما ليست قريبة من ذاكرة الناس، وبالتالي هذه الأدوات التي بدأت تتمايز وتأخذ منحى مختلفاً عن الأصل، أصبحت تنسف معها أغلب الأغنيات وأغلب الأدوات التي كانوا يستخدمونها في الأعراس، حتى إنه في الأعراس كانت تتواجد ألعاب على مستوى التنافس الشعري، أحدهم يقول كلمة والآخر يبني عليها وهكذا، هناك أغنية مثلاً كانت تقال في (دق البرغل)، صارت تقال بالأعراس، تتغير الأسماء والحكاية والمجموعة، لكن الجذر الغنائي والموسيقي قائم، ومن هنا أعتقد أنه تكمن أهمية التراث، هذا الجيل المعاصر الآن والقادم لا يعرف شيئاً عن تراثه، وبالتالي مهم جداً تسليط الضوء على هذا القائم، حتى يأتي فيما بعد أشخاص يعملون بالموسيقا ويوجدوا هذه الخامات البسيطة والبكر، ويبنوا عليها فيما بعد إبداعاتهم الموسيقية».
وتحدث عن نموذج من "النعي" كلون غنائي يوجد في "جرابلس"، فقال: «النعي له خصوصية بتناوله، الإنسان الجرابلسي سواء كان رجلاً أم فتاة أم معمراً في السن، يمتلك هذه الذاكرة الموسيقية، المتنوعة، فلذلك من الطبيعي انعكاس أي حالة إبداعية أو ابتكارية في لحظة الحاجة، تجعل الذاكرة مباشرةً، النعي يتماهى باتجاه الفراتي، لكنه يتميز في "جرابلس" بأنه فيه النغمة التركية، النغمة التركية الأورفلية الحزينة، فلذلك جمع أمرين، نغمة فراتية سويحلية موجودة في "جرابلس" بتركيبتها المعروفة، إلا أنه بتركيبته المعروفة من الناحية الطويلة يزداد طولاً أكثر، والفارق أيضاً أن هناك توزع أصوات بشكل فطري تجاه الأداء، الناعية إذا جاز تسميتها، المرأة التي تقود مجموعة الأصوات التي تؤدي، هي التي تبدأ بالنعي اتجاه الفقيد، وهي ذاكرة بالنهاية، يبدؤون بالعمل عليها وتبني عليها المرأة، هي لحظة حساسة جداً ومؤلمة، لأن هناك فقيداً في النهاية، فالرد دائماً يكون وراءها، يسمونها في "جرابلس" (الكَهدة) تقول امرأة للنساء الأخريات بأصواتهن المتعددة، يبدأن بـ(الكهد) أو البكاء، فهذا البكاء من أصوات متعددة ناعمة ورحيمة وحادة، يخرج لدينا جوّاً أشبه بالوجد الحزين عالي المستوى، ويشكل هارمونياً، لكن هنا أمام مشهدية صوتية مختلفة، وهذا أحد أنواع الغناء الموجودة الآن».
ويوضح: «"الكهدة" بالوزن الموسيقي تساوي اللازمة الموسيقية بالأغنية، إذا كانت الجملة الموسيقية قصيرة تكون "الكهدة" قصيرة أيضاً، وإذا الجملة أطول تكون "الكهدة" أطول، فهذا الشكل الشعبي أتى نتيجة الحاجة إليه».
ويختم بالقول: «أيضاً هناك نوع آخر من أنواع الغناء الشعبي، وهو الغناء المرتبط بالعمل، نتيجة الأرض والفلاحة والزراعة والحصاد، كله صنفته بتصنيفات متعددة، وأعطيت لكل نوع حقه بالبحث والإلمام».
الجدير ذكره أن الأستاذ "يوسف الجادر"، مجاز فلسفة من جامعة "دمشق"، ومقيم في مدينة "دمشق"، البلدة الأصلية هي "جرابلس"، يكتب الشعر، وحالياً يعمل على مشروع رواية، وينشر مقالات في الدوريات المحلية والعربية.