استطاع الفنان المرحوم "يوسف الجاسم" المعروف بـ"أبي حياة"، ورغم فقده للبصر أن يمتع عشاق الفن الفراتي- وعلى مدى عدة عقود- بألحان شجية لا يزال أثرها مطبوعاً في قلوبهم.
eSyria التقى الفنان "سعيد حمزة" والذي عرف "أبا حياة" أستاذاً وصديقاً، فحدثنا عنه بالقول: «ولد الفنان "يوسف الجاسم" الملقب "أبو حياة" عام 1928 في "دير الزور" وتوفي 1/1/1999، وقد بدأ حياته الفنية كمطرب للأغاني الشعبية الفراتية مثل "عل لا لا" و"المولية" وغيرها من الأغاني والمواويل حيث كان يتابع حفلات الأعراس، ليحفظ ويتعلم من مطربي تلك الفترة الذين كانوا يغنون على الربابة والطبل والشاخولة والمطبق، وبقي على هذا الحال فترة من الزمن حتى عام 1946 وكان يميل لسماع الفونغراف حيث كانوا يسمونه بدير الزور "الصندوق ليغني"، ومعجباً ومولعاً به لدرجة العشق».
إنه موهبة فذة وأستاذ كبير، لقد استوعب بوقت قصير جداً كل ما أعرفه بل طور نفسه وتفوق علي حتى صار علماً
ويتابع "الحمزة"قائلاً: «في عام 1949 عشق صوت الناي وصار يسأل عنه، فعرف أنه يشبه البوري المثقوب وقام بتثقيب بوري وأخذ ينفخ فيه، ويعلمُ نفسه على عزف بعض الأغاني ولكن بدء المعرفة الفنية الأولى كان بلقائه بالأستاذ الموسيقي والباحث "صالح نجار" رحمه الله، عندما سمع عزف "أبو حياة" على آلة الناي وأعجب به، وأكد له بأنه صاحب موهبة فذة وطلب منه أن يعلمه وبالفعل أخذ منه بعض المعلومات والدروس الموسيقية المهمة».
ثم يبين "الحمزة" المراحل الأخرى التي مرت بها حياة هذا الفنان قائلاً: «بعدها تابع تعلمه على يد "الأستاذ الحاج عبد اللطيف النبكي" خلال إقامته بحلب وفي عام 1954 حضر إلى "دير الزور" المطرب "محمد أمين" مع فرقة موسيقية لإحياء حفل في سينما القاهرة الصيفي، وذهب إليه وأسمعه أغنية "نور العيون يا شاغلني" وهو مطربها الأصلي، وقد أحدث هذا اللقاء ثورة في حياته حيث جاءت نصيحة المطرب "محمد أمين" بالنسبة له بمثابة الانطلاقة والأفق الجديد، الذي سينقله نقلة نوعية إذ استطاع تنفيذ نصيحته حيث قال له: "تعلم على آلة العود بدلاً من الناي لأنه سيساعدك على الغناء أكثر ومن خلاله تستطيع تدريب صوتك ودراسة الموسيقا"».
وتابع: «فأخذ يتمرن على آلة العود حتى تمكن من العزف عليها، وفي عام 1955 استدعته إذاعة حلب ليعمل كمطرب، وكان ذلك عن طريق صديقه "بشير حلواني " الذي أعطاهم فكرة عنه وذهب إلى حلب وقُبل فيها كمطرب بعد أن اجتاز الفحص بنجاح واشترطوا عليه أن يَنضمَّ إلى فرقة الموشحات، ليتعلم فيها الأوزان والمقامات الموسيقية ويصقل صوته من خلال دروس الصولفيج والأغاني التي سيحفظها وبعدها يقدم الغناء الإفرادي».
وأضاف "الحمزة" قائلاً: «عمل معهم فترة قصيرة، وما إن أتقن بعض القواعد الموسيقية الأساسية حتى شعر بأنه عليه الانطلاق فوراً إلى مدينته التي هي بحاجة له ولما تعلمه، في عام 1956 بعد أن عاد راح يدرب نفسه ثانية على العود ويتلمس طريقه عسى أن يصبح عازفاً ويحقق ما يحلم به من طموح».
أما علاقة الموسيقي المرحوم "يوسف الجاسم" بآلة الكمان، فبدت من حاجته للمال، إذ وضح لنا ذلك الفنان "سعيد حمزة" بالقول: «تولد حبه للكمان من حاجته المالية، ففي "ديرالزور" لا يوجد عازف كمان، وفي هذه الفترة جاءت فرقة فنية منوعة فيها غناء وتمثيل ورقص تضم فنانين لبنانيين وسوريين إلى "ديرالزور"، وعلى رأسهم الفنان القدير "سعد الدين بقدونس" لتقدم عملها بسينما "القاهرة الصيفي" وطلبوا من "أبي حياة" أن يرافقهم على الناي خلال حفلات "دير الزور" و"الحسكة "، فقام عازف الكمان في هذه الفرقة بتعليم "أبي حياة" المبادئ الأساسية على هذه الآلة، بعدها بدأ يتدرب ساعات طويلة ويحفظ ويدرس نفسه على الكمان المستعار وبعدها تمكن من العزف عليه، وأصبح قادراً على المشاركة في الحفلات، ودعي من قبل نادي "الطليعة" بديرالزور وكان أول مرة يظهر عازف كمان من "دير الزور" في حفلة وتبرع وقتها أعضاء النادي بقيمته واشترى الكمان وهذا حمله مسؤولية أكبر حيث ضاعف ساعات التدريب ليظهر أكثر قوة، وخصوصاً أنها أصبحت مصدر رزقه لكونه لا يوجد لديه عمل يعيش منه ويعتمد عليه في تلبية متطلباته».
وبعدها تحول الطالب لأستاذ بعد عناء طويل إذا يقول الفنان "أبو حياة" في مذكراته موضحاً ذلك: «بمجرد ما شعرت بأنني أصبحت قادراً على أن أعلم الموسيقا، نذرت وقتها أن أعلم عشرين طالباً وطالبة على كل آلة أجيد العزف عليها مجاناً وذلك بسبب ما عانيت أثناء فترة تعلمي، وبعدها باشرت بنشر الثقافة الموسيقية من خلال نادي "الفنون" ونادي "الطليعة" الفني والمركز الثقافي والمنظمات، وأصبح هناك شبه فرق موسيقية شعبية متواضعة تحيي حفلات الأعراس والحفلات المنزلية الخاصة».
وقد حصل الفنان الراحل "أبو حياة على ثناء من وزارة الثقافة، وبقي يقدم للفن الفراتي حتى توفي، إذ يذكر لنا ذلك "الحمزة" بقوله: «حصل على ثناء من وزارة الثقافة عام 1960 تقديراً لجهوده الفنية الذي بذلها منذ تأسيس المركز الثقافي العربي بدير الزور، وبقي يعطي ويعلم حتى وافته المنية، وإذا كنا نريد أن نرد لهذا الفنان القدير شيئاً من الجميل والعرفان فإنني أقترح تسمية أحد الشوارع أو القاعات الفنية بمديرية الثقافة باسمه».
وعن المقدرة الموسيقية لهذا الفنان الكبير "أبو حياة" يقول أستاذه الباحث "صالح نجار": «إنه موهبة فذة وأستاذ كبير، لقد استوعب بوقت قصير جداً كل ما أعرفه بل طور نفسه وتفوق علي حتى صار علماً».
ومن الموسيقيين الذين عايشوا تجربة "أبو حياة" التقينا بالأستاذ "رفيق الجاسر" الذي حدثنا بقوله: «"أبو حياة" فنان يستحق لقب أبو الموسيقا في "دير الزور"، وهو فنان استثنائي لا يتكرر، حاد الذكاء، ذو فطنة وفراسة عاليين، مهذب، يعزف على ثلاث آلات موسيقية "الكمان، والناي، والعود" ، لديه براعة شديدة في العزف، وكان رغم فقده لبصره أنيق ونظيف إلى حد كبير جداً».
كما التقينا الفنان "خالد شخيلان" وهو أستاذ بمعهد إعداد المدرسين قسم التربية الموسيقية، فحدثنا عن الإنسانية العالية التي تميز بها هذا الفنان، إذ قال فيه: «تميز "أبو حياة" بروحه الجميلة وبخفة دمه عدا تمتعه بجمالية عالية في أدائه الموسيقي رغم كل الصعوبات التي عاناها في حياته، وتربطه علاقة جيدة مع جميع الفنانين الذين عاصروه، إضافة لشعبية منقطعة النظير لدى جمهور الفن في "دير الزور" حتى تحول لأحد رموز الفن الفراتي».
ومن فناني الرعيل الأول كانت لنا وقفة مع الفنان الأستاذ "عبد المجيد اسماعيل" الذي تكلم عن تجربة "أبو حياة" بالقول: «رغم كل الظروف الصعبة التي أحاطت بأبي حياة لكنه استطاع أن يكون عازفاً موسيقياً مميزاً، ولو توافرت له الدراسة الأكاديمية الكافية، والوفرة المادية لأعطى هذا الفنان المزيد من النتاج الإبداعي».