كثيراً ما يتجاوز الفن المسافات الشاسعة مقرباً بين الشعوب، فكيف إذا كان الحديث عن جيراننا في "العراق"، إذ يشكل الفن السوري والعراقي امتداداً ثقافياً واحداً، الأمر الذي جعل الأغنية العراقية محببة للشعب السوري، ومنتشرة انتشاراً كبيراً، وللذهاب بعيداً في التعرف على أنماط الأغنية العراقية وعلى الآلات الموسيقية التي كانت "العراق" مهداً لنشأتها، استضاف المركز الثقافي العربي في "المزة" الفنان "يحيى الجابري" في أمسية فنية تراثية موسيقية، كان للغناء الحصة الأكبر منها.

موقع eSyria كان بين الحضور في هذه الأمسية التي حملت عنوان "الموسيقا والغناء في تراث حضارة وادي الرافدين"، التي أقيمت بتاريخ 14/10/2010، والتقى الأديبة والباحثة "منيرة حيدر" التي عبّرت عن إعجابها بالفن العراقي عموماً، وبأعمال الفنان "يحيى الجابري" على وجه الخصوص، وحدثتنا عن سبب وجودها في هذه الأمسية بقولها:

هي أغنية تعبر عمن وقع عليه الأذى، وهي على البحر الوافر وفيها جناس وقافية

«سمعت كثيراً عن الفنان "يحيى الجابري" من أصدقائي من شعراء وشاعرات "العراق"، فله فرقة أسسها من خلال رقيه الفني ونتاجه الأدبي العالي، واهتمامه بالشأن الإنساني العام، وكنت قد قرأت اسمه للمرة الأولى عام 1979 عند حضوري للمؤتمر القومي الشعبي الذي عقد لقيام الوحدة العربية بين العراق وسورية، وكان اسمه قد ورد في اللجنة الفنية، ولم يتسن لي أن أراه حينها، لذا كان لهذا اللقاء اليوم أثر جميل وكبير في نفسي».

من الحفل

وتابعت "حيدر" وهي عضو مؤسس في منظمة الاتحاد العام النسائي مبيّنة أهمية تقديم الفن العراقي للشعب السوري، بقولها: «للفن دور كبير في تقارب الأمم، كما أن المنتج الحضاري متواصل ضمن بلادنا العربية، وكل حضارة تكمل الأخرى، لذا لابد للشعب السوري من التعرف على الموسيقا العراقية لأصالتها، كما أن فهمنا لعلاقة الموسيقا السورية والعراقية يعمق فهمنا لفنهما، لكون العراق وسورية دولتين متجاورتين».

استهل "الجابري" أمسيته بالحديث عن عراقة الموسيقا في أرض العراق، وعرّف عن أولى الآلات الموسيقية التي ظهرت هناك بقوله: «العراق مهد أول آلة موسيقية ولدت على هذه البسيطة، وتدعى "الجنك" وقد كان لصناعها رؤية عميقة ومقدسة للآلة الموسيقية، فقد اعتبروا جسد الآلة رمزاً لجسد الإنسان والأوتار أعصابه، ولم تخل آلة موسيقية من شيء مادي يدل على قدسيتها، فقد كان يدخل في تصنيعها شيء من جثمان شخص مرموق اجتماعياً، يعطي من سموه رفعةً للآلة».

يحيى الجابري

يتابع "الجابري" متحدثاً عن الطقوس المتبعة لاعتماد آلة موسيقية كآلة للمعبد، واصفاً إياها بقوله: «تصنع هذه الآلة من ثور مقدس، لم يتعرض يوماً للضرب، وتنطبق عليه الكثير من الشروط الأخرى التي تجعله مقدساً، حيث ينظف وتصنع منه الآلة، التي تأخذ شكل الثور عند انتهائها، ثم يزف إلى المعبد ليصبح آلة المعبد المقدس».

كما أشار "الجابري" إلى أن الكثير من هذه الآلات التي وثقها ضمن تاريخ الموسيقا، لها لقىً وآثار طينية تشهد عليها، وما لفت انتباهه لدى زيارة المتحف الوطني في سورية هو ذاك التشابه في الطابع مع الآثار العراقية، والتي عبر عن ألمه لفقدها بغصة يقول: «إن آثارنا قد أصبحت في متاحف متفرقة في فرنسا وانكلترا وغيرها، بعد أن سرقت إثر الاحتلال».

من الحضور

ثم بدأ الحفل الموسيقي الذي أسسه "الجابري" معرفياً بمعلوماته القيمة، ليبدأ بإمتاع الجمهور بعزفه على العود وغنائه الجميل، بصحبة فرقته التي ضمت عازفين متنوعين على الإيقاع، وعلى القانون، وكانت عبارة عن نماذج من الغناء الريفي، بدأه بالأبوذية والتي وصفها بقوله: «هي أغنية تعبر عمن وقع عليه الأذى، وهي على البحر الوافر وفيها جناس وقافية». وقد نالت كثيراً من تصفيق الجمهور، وتتالى التصفيق تباعاً معبراً أكثر فأكثر عن مدى استمتاع الجمهور بتلك الأمسية.

صدر لـ"الجابري" كتابان، وكان الأول بعنوان "تاريخ الآلات الموسيقية"، أما الثاني فهو "أطوار الغناء الريفي والبدوي في العراق"، وثمة بعض أعمال قيد الطبع مثل "السيرة الذاتية" للفنان الجابري، وقد حدثنا عن أهم ما حوته كتبه بقوله: «تحدثت في كتابي عن أكثر من 45 آلة موسيقية، لم يكن يعرف عنها شيء من قبل، وصفتها ووثقتها، كما يحوي الكتاب معلومات كثيرة عن تاريخ التدوين الموسيقي وأسبقية العراقيين في ابتكار الحروف الموسيقية الخاصة به».

الجدير بالذكر أن الفنان " الجابري" نقيب الفنانين العراقيين في المهجر، وقد حصد الكثير من الأوسمة والجوائز العالمية، ويعتبر صانع النجوم الأول في العراق لكثرة من تخرج على يده خلال مسيرته الفنية التي امتدت 46 عاماً من العطاء.