لعل ما يميز "حكمت صقر- أبو الحكم"، النادل في مقهى "الروضة"، كدّه وبشاشته، ومسيره اليومي، ضمن حدود عمله بمقدار 12/كم منذ 35عاماً، إضافة إلى 3كم بعد انتهائه من الدوام، ما يعني أنه وصل إلى نهاية العالم على الأقدام وهو الآن في الستين من العمر، في مهنته يعتبر التعامل مع الآخرين فناً من فنون الخدمات، والترحيب، يبني لبنة فوق الأخرى، شعاره الدائم "أهلاً وسهلاً وشرفت ومع السلامة".
موقع eSyria زاره في مكان عمله "مقهى الروضة" باكراً في أحد الصباحات وأجرى معه الحديث الذي كانت بدايته عن معنى الضيافة لديه فقال: «الاهتمام والضيافة معناهما كبير، ويشعران المرء بالارتياح النفسي، الذي يجعله يفكر بالعودة ثانية، فخدمته تأتي إليه، وما يترتب على ذلك منذ قدومه وحتى ذهابه، فمثلما للبناء أساس، فإن الترحيب، الدلال والكرم للزبون هو أساس في هذه المهنة».
حياتي كلها في العمل والكفاح، ما يئست ولم أشعر يوماً بالفشل، بل ازداد فرحاً حينما يكون أهل بيتي فرحين وبصحة جيدة، لا أحب الأذى لأحد، أول شيء بالنسبة لي أن أعمل دائماً، وأحاول ألا أصبح فقيراً، وأعيش مثل الناس بصحة جيدة
وعن كيفية بناء الجسور مع الزبائن والتي تحولت في معظمها إلى صداقات يجيب: «أقدم إلى العمل في الساعة 7،30 صباحاً، أسأل عن هذا الزبون أو ذاك، في حال غياب أحدهم أستفسر عن السبب، أمرض هو أو عمل، أما إذا طال غيابه، فيمكن أن نسأل عنه وعن أخباره، لنعرف هل هو بصحبة جيدة، هل هو حي أم ميت؟.. وبالبسمة والكلمة الطيبة تتطور العلاقة المؤسسة على الاحترام، الكرم والعطاء، فيصير هناك نوع من الود يبنى من خلال التعامل والاحتكاك المباشر مع الناس، لذلك تراهم في ساعات الشدّة والمرض يسألون عني، وهذا بحد ذاته مكسب، وجميل يرد إلي، وهناك بعض العلاقات تمتد بعمرها إلى 35 سنة إنها ثمرة صغيرة من العلاقة ربيت بالمداراة والمحبة».
أما الأسماء التي كانت من رواد مقهى "الروضة" ورحلوا عن هذه الدنيا، وأثر غيابهم عليه، يتابع بتنهيدة بعد أن تغيرت ملامحه لتذكره بعضهم: «أنا أحزن على الإنسان الذي أفقده، إلا الموت هو الشيء الوحيد القهار في الدنيا، نبدأ بذكراه، فقد كان يتردد علينا ونراه، مثلما حصل مع الأستاذ الروائي الكبير "هاني الراهب" و"برهان البخاري"، الذي أثر بي موته كثيراً، لأنني كنت أعتبره صديقاً حميماً، كان حتى وهو في مرضه يسأل ابنه عن أحوالي كيف هو "أبو الحكم"، وكيف صحته، ما أخباره، أيريد شيئاً، أيحتاج إلى أي شيء؟، وغيرهم الكثيرون من شخصيات أخرى، ممن عرفتهم غادروا دنيانا، كالأستاذ "إسماعيل عرفي" رحمه الله، فقد كان حاضناً وراعياً لي، وهناك إجمالاً أناس كثر ممن توفوا رحمهم الله جميعاً».
وفي هذه المسيرة الطويلة يتحدث عن حياته فيقول فيها: «حياتي كلها في العمل والكفاح، ما يئست ولم أشعر يوماً بالفشل، بل ازداد فرحاً حينما يكون أهل بيتي فرحين وبصحة جيدة، لا أحب الأذى لأحد، أول شيء بالنسبة لي أن أعمل دائماً، وأحاول ألا أصبح فقيراً، وأعيش مثل الناس بصحة جيدة».
هو الذي يقضي وقتاً طويلاً من وقته في الاحتكاك بالمثقفين والفنانين، وعن علاقته بالثقافة وتأثره بهم يشير "أبو الحكم": «المثقفون، الشعراء والكتاب، كلهم إجمالاً أهدوني كتبهم، بدوري أردُّ جميلهم بقراءة الكتب ومناقشتهم مباشرة، لم أكن أترك موضوع المناقشة لوقت طويل، الأستاذ "ياسين رفاعية" وهو كاتب مشهور، لا يكتب شيئاً إلا ويعطيني إياه وأناقشه فيه مباشرة، فيقول لي: أنا أستغرب!. فأجيبه: لا، ولماذا تستغرب؟. هذا واجب، أنت قمت بواجبك بإعطائي مادة القراءة، وأنا واجبي أن أقرأ لك، بل مناقشتك فيما كتبته، وكذلك "سليمان عواد" الأستاذ "عادل أبو شنب، شوق بغدادي، أدونيس، خيري الذهبي، عبد الرحمن الحلبي، حمدان حمدان"، وأيضاً الأستاذ "محمد مظلوم وخالد رمضان"، وغيرهم كثر، لا أحد منهم يكتب شيئاً إلا ويهديني إياه، أنا لست كاتباً، ولا شاعراً، ولا أحمل إجازة في الأدب العربي، لكني أحب المطالعة، أعيش بين مثقفين والكتّاب، فإذا سمع الشخص كلمة، عليه أن يفهم معناها، هذا ليس بالشيء المكلف، إنني أعرف نفسي لست ناقداً، ولا أنا ميزان أدب لكن ما أقرأه يفتح عيني على أشياء جمة لم أعها قبلاً، الكُتّاب ينقلونني إلى شخصيات وبلدان لم أعرفها أبداً. كان الأستاذ "شوكت" يحمل لي حقيبة مليئة بالكتب من بيته إلى هنا في المقهى، ويقول لي اقرأ، كذلك الأستاذ "ميعاري" رحمه الله، وقبل مغادرته يخاطبني انته من قراءة الكتاب، لأحضر لك آخر غداً، طبعاً هناك الكثير من الكتب قرأتها الآن لا أتذكر عناوينها، الأديب، أو المثقف، متفرغ لعمله الذي هو اختصاصه، فيُركّز أكثر، لذلك هو لا ينسى مثلي، أما أنا فأريد أن أعمل هنا وأن أرى أولادي يكبرون أمامي أيضاً».
وتابع يتذكر من الفنانين: «وكذلك هناك علاقة طيبة مع الفنانين الذين كانوا يرتادون المقهى أمثال "رفيق سبيعي" أطال الله في عمره، "دريد لحام، جمال سليمان، أيمن رضا، حسن دكاك، عبد الله عباسي"، أنا أظن أن كل الفنانين في سورية ارتادوا المقهى ويحتفظون بذكريات طيبة فيه نتيجة حسن المعاملة».
يضيف عن طبيعة توصيفه لعمله، وكيفية الحفاظ عليه حتى أصبح يعامل كواحد من أبناء الحاج "أبو أحمد" صاحب المقهى: «أعمل نادلاً "كرسون" بهذا المقهى، مضيّف، ليس لي أية صفة إضافية، أهتم بهذا المحل وأحافظ عليه مثل بيتي، لأنه مصدر رزقنا، الإنسان الذي يريد أن يكون ذاته ذات يوم، عليه أن يحافظ على مهنته وسمعته كي تتناقل الناس عنه الخبر الجيد، والأخلاق والضمير والوجدان المميز، بالوجه الجميل والابتسامة الجميلة والكلمة الطيبة تلقى الآخرين دائماً "الكلمة الطيبة تخرج الأفعى من وكرها"».
عن الفوارق التي طرأت عل المقهى في مقارنة بين الأمس واليوم، يتابع: «قبل ربع قرن من الآن كانت الزبائن تختلف عنها اليوم، فقد كانوا كلهم من أعمار ما فوق الـ40 سنة، وابن الـ 25 سنة لم يكن يدخل هنا، عندما كان يدخل أحدهم إلى المحل، يصبحهم صباح الخير يا "باكاوات" يقف الجميع، ويردون "أهلين يا بيك، تفضل عـ"طاولتك" الكل يلتزم الأدب واللباقة، لا تسمع صوتاً ناشزاً، المتحدثون إلى بعضهم على طاولة واحدة لا يزعجون غيرهم ممن يجاورونهم على الطاولات الأخرى، كما أن شاربي "الأراكيل" كانوا معروفين، و"الأراكيل" كلها كانت من "التنباك"، لم يكن هناك "المعسل" كما اليوم، الآن اختلف الوضع، الزبائن الآن تراهم بعمر الــ 20 سنة، وكان الزبون قديماً له خصوصيته، بينما الآن هذا شيء عادي، الكل يشرب "الأراكيل" و"المعسل"، وفي السنوات الأخيرة بدأت ظاهرة جديدة، هي ارتياد الفتيات إلى المقهى، هذه لم تكن موجودة سابقاً، الآن أصبح الأمر عاديا، الصبية تشرب "أركيلة" والشاب أيضاً، وأنا الوحيد، لا أشربها!».
الكابتن في مقهى الروضة "سمير راغب" وزميل لـ"أبو الحكم" منذ عشرة أعوام تحدث: «"أبو الحكم" إنسان هادئ، متواضع، متفاني في عمله، محترم بكل معنى الكلمة، يتعامل مع كل رواد المقهى بسوية واحدة من الاحترام الرفيع دون تمييز بين شخص وآخر بغض النظر عن المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو الموقع الوظيفي، فهو صديق مع كل الناس ومع كل من يدخل المقهى، ونتيجة هذه المعاملة الجميع يبادله المحبة والاحترام وربما أكثر، لكنه أحياناً ينفعل من قضايا بسيطة».
"رياض طبرة" كاتب قصة- عضو اتحاد الكتاب العرب بجمعية القصة- عضو مجلس اتحاد الصحفيين، متقاعد حالياً من صحيفة "تشرين"، وأحد رواد مقهى الروضة منذ زمن بعيد يقول: «عرفت "أبو الحكم" منذ عام 2000 تماماً، حين كنّا نتردد على هذا المقهى التقليدي، الذي يعد من أهم الأمكنة في المدينة العاصمة، مثله كغير المقاهي المعروفة أيام زمان، "البرازيل"، و"الهافانا" وغيرها، لهذا الرجل دور كبير في صنع صداقات خاصة، قلّما نجدها في مكان من هذا النوع، تتعامل معه كصديق لا كعامل في مقهى، غالباً ما يكون عامل المقهى لديه إحساس بالجفوة، بالبعد عن القادم إليه، فهو من طبقة أو شريحة اجتماعية مختلفة عن من يقدم له فنجان القهوة أو كأس الشاي، أما "أبو الحكم"، فيتعامل مع الجميع على سوية واحدة من الاحترام والمحبة، فقد نسج بينه وبين الآخرين صداقة ومودة، لا تسمح بظهور هذا الفارق، إذ معظم من يحضر إلى المقهى يتعامل معه بمودة يطلب منه، يتعامل معه أيضاً بارتياح كبير، إنه واع جداً وشخصيته متماسكة، وهو بالنسبة لي أخ تماماً وبيننا صداقة عائلية تربطنا».