تعد مدينة "حلب" إحدى أعرق المدن في العالم وأكثرها شهرة في مجال العلم والعلماء ويدل على ذلك وجود عدد كبير من المدارس والمكتبات فيها والتي ما زال قسم كبير منها محافظاً على عمارته ودوره العلمي منذ أقدم الأزمنة، إنّ المتجول في المدينة القديمة فيها يرى بأنه لا يخلو حي من أحيائها من مدرسة أو مكتبة تضم نفائس الكتب ونوادر المخطوطات، ومن هذه المدارس المهمة "المدرسة الشرفية" الواقعة بجوار "الجامع الأموي".
عن هذه المدرسة يقول الدكتور الشيخ "علاء الدين زعتري" (1) في كتابه /دار المكتبات الوقفية الإسلامية بحلب/- دار "غار حراء": «مقرها في "محلة السويقة"- "شارع قاضي الحاجات"، وهي المكان الذي وُضعت فيها المخطوطات المجموعة من خزائن الكتب المنتشرة في "حلب" وهي أول مدرسة بُنيت في "حلب" وقد أراد بانيها "ابن العجمي" الذي أنفق عليها ما ينوف على أربعمئة ألف درهم ووقف عليها أوقافاً جليلة أن تكون مشابهة للمدرسة التي درّس فيها ببغداد/ "المدرسة النظامية"/».
اُستخدمت في المدرسة المقرنصات في أماكن مثل القبلية المدخل الأعمدة وكذلك النقوش النجمية الحجرية مثل المدخل والمحراب والألواح الرخامية المتشابكة في المحراب وبذلك تكون هذه المدرسة حالة متطورة من المدارس الأيوبية بُنيت على الأرجح في أواخر هذا العهد
ويضيف: «لقد أصاب هذه المدرسة ما أصاب غيرها من المدارس من الضياع والتلف والخراب والسرقة فأُعيد بناؤها سنة 1340 هجرية تحت إشراف مديرية الأوقاف بحلب ولكن بعد الترميم لم يبق من بنائها القديم سوى الباب المزخرف والعقد ذي المتدليت والقبلية بقبتها ذات المتدليات ومحرابها، وجمعت مديرية الأوقاف في هذه المدرسة ما تبقى من المخطوطات المتناثرة هنا وهناك في خزائن الكتب المتفرقة في المدارس والجوامع والزوايا والتكايا والترب، وكان ذلك سنة 1345 هجرية ومنذ ذلك اليوم صارت تُعرف باسم/ دار المكتبات الوقفية الإسلامية بحلب/ وقد لعبت دوراً مهما في الحياة العلمية للمدينة وفي النشاط الثقافي والفكري لأهالي مدينة "حلب" وللمشتغلين بالتراث والعلم من شتى أرجاء البلاد».
ولمعرفة المزيد حول تاريخ "المدرسة الشرفية" وتطور عمارتها عبر التاريخ التقى مراسل موقع eAleppo بالدكتورة "لمياء جاسر" مؤلفة الكتاب الموسوعي الضخم/ مدارس "حلب الأثرية- تاريخها وعمارتها/- فتحدثت بالقول: « تقع "المدرسة الشرفية" في "محلة سويقة حاتم" شرقي "الجامع الأموي الكبير" في "سوق استانبول" والذي يُعرف حالياً بسوق النسوان.
بنى هذه المدرسة "شرف الدين عبد الرحمن بن العجمي" 1259م وتاريخ إنشائها غير معلوم فليس هناك حالياً أي نص يشير إلى ذلك إلا أنّ "أبو ذر"(2) قرأ على قنطرة بئر كان فيها- ذكر "الغزي"(3) أنها سُرقت قبل العام 1925 بوقت ليس ببعيد- مايلي: وقف هذه القنطرة واقف هذه المدرسة "عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن العجمي" على مصالح الجب في شهر ربيع الأول سنة أربعين وستمئة، أما بقية المراجع فتذكر أنّ واقفها "شرف الدين" توفي قبل أن تنتهي وأنّ مدة عمارتها امتدت لأربعين سنة».
وتضيف: «يذكر "أبو ذر" أنّ التدريس في هذه المدرسة استمر حتى بعد اجتياح "تيمورلنك" لمدينة "حلب" بفترة، بينما يذكر "الطباخ" و"الغزي" تطورات طرأت على هذه المدرسة في أيامهما، ففي سنة 1881م عمّر متولي وقف "أحمد مطاف" من الجهة الشرقية قبواً كبيراً اُتخذ مكتباً استمر حتى العام 1923م وفي العام 1916م خُرّبت القبة في التربة القديمة وحُوّل القبر من وسطها إلى طرفها من الجهة الجنوبية، وفي سنة 1923م اهتم مدير الأوقاف بأمر هذه المدرسة فخرّب حجرها الغربية، والرواق والمطهرة اللذين كانا في الجهة الشمالية وكانت كلها مشرفة على الخراب وعمر مكانها عشرة حوانيت كبيرة ودخل المسجد الذي كان غربي القبلية في عمارة الحوانيت واتخذ للقبر حجرة صغيرة بينه، وعُرّضت الجادة من الجهة الغربية ذراعان ومن الجهة الشمالية ثلاثة أذرع، وفي سنة 1924م شرع مدير الأوقاف بعمارة قاعة كبيرة فوق القبو الكبير والبيت الذي بجانبه وأخذ لهذه القاعة غرفة من الطابق العلوي من "خان الصابون" وبنى في الجهة الشرقية بيت كبير من جهته الجنوبية أربعة أعمدة ضخمة كما رمم القبلية ودهنها، وقد كانت البركة لا تزال موجودة إلا أنها مختلفة الوضع وعديمة النفع خالية من الماء والدولاب الذي يؤخذ منه الماء إلى البركة وقد جهل مكانه وفي العام 1985م أُجريت في المدرسة أعمال ترميم وإكمال من زريقة ودهان».
وحول وضع المدرسة اليوم تقول د."لمياء": «بالنسبة للمدخل فهو يتألف من قسمين خارجي وهو عبارة عن قوس عميق حديث يتقدم البوابة القديمة وداخلي عبارة عن بوابة قديمة من أصل البناء وهي على شكل إيوان صغير يسقفه نصف قبة فوقه مقرنصات، والصحن صغير يشغل معظمه حوض زرع كبير وقد تُرك حوله ممرات تتسع في الجهة الشمالية والشرقية من الباحة وتساعد على الحركة، وبالنسبة للقبلية فيبدو أنّ اقتطاع أجزاء من المدرسة قد استمر، فبعد "الطباخ" (4) اُقتطع من القبلية المجاز الغربي وأصبحت مكونة من مجازين يفصل بينهما قوس مدبب يرتكز على دعامتين وتتصل كل من مربعة المحراب والمجاز الشرقي مع رواق أمامهما، في قسمه الشرقي ميضأة وينفتح على الباحة بباب على طرفه الغربي نافذة وعلى طرفه الشرقي نافذتان وقد ضم الرواق إلى القبلية بعد إعادة بنائه.
سُقفت مربعة المحراب بقبة مفصصة من الداخل ملساء من الخارج محمولة على ثلاثة طبقات من المقرنصات تصغر تدريجياً كلما اتجهنا نحو الأعلى، ولها من الخارج رقبة مثمنة في الأعلى تحملها جدران مرتفعة من الحجارة الصغيرة لها مسقط مضلع غير منتظم ربما كانت الغاية منها تدعيم القبة من الخارج، والجدير بالذكر أنّ هذه القبة هي الأولى من نوعها في "حلب" ويمكن اعتبارها قبة مضاعفة لأنصاف القباب في المداخل الأيوبية المقرنصة، أخيراً محرابها عميق تجويفه نصف دائرة متجاوزة في قبته أشكال نجمية منقوشة في الحجر وفي واجهته أشكال هندسية متداخلة تشكل في وسط قوس المحراب دائرة كتب عليها "أبو بكر النصبة"».
وأخيراً تحدثت د."لمياء" عن الزخارف المستخدمة في "المدرسة الشرفية" بالقول: «اُستخدمت في المدرسة المقرنصات في أماكن مثل القبلية المدخل الأعمدة وكذلك النقوش النجمية الحجرية مثل المدخل والمحراب والألواح الرخامية المتشابكة في المحراب وبذلك تكون هذه المدرسة حالة متطورة من المدارس الأيوبية بُنيت على الأرجح في أواخر هذا العهد».
(1) - الشيخ الدكتور "علاء الدين محمود زعتري" من مواليد "حلب" 1965 -دكتورا في العلوم الإسلامية وأستاذ الفقه المقارن والاقتصاد الإسلامي في جامعات سورية ولبنانية.
(2) - "أبو ذر سبط ابن العجمي الحلبي" -مؤرخ له /كنوز الذهب في تاريخ "حلب"/.
(3) - "كامل الغزي" 1853-1933 مؤرخ حلبي له /نهر الذهب في تاريخ "حلب"/.
(4) - "محمد راغب الطباخ" 1877-1951 مؤرخ حلبي له /إعلام النبلاء بتاريخ "حلب" الشهباء/.