في بداية خمسينيات القرن الماضي، شرعت مؤسسة البارون "أوبنهايم" الألمانية بأعمال تنقيبات أثرية واسعة في موقع تل "خويرة" في محافظة "الرقة"، برئاسة الأستاذ "أنطون مورتغارت"، مدير معهد آثار الشرق القديم في جامعة "برلين" الحرة آنذاك.

وبعد مرور عدة سنوات على هذه الأعمال، استطاع طاقم التنقيب الأثري في عام /1959/م، العثور على مجموعة من المباني الهامة داخل المربعات المعنونة بالحروف الأبجدية، والأرقام اللاتينية التالية: "C.V. CVI" و"DV.DVI"، وقد أطلق على مجموع هذه المباني التي تم الكشف عنها في هذه المربعات اسم قصر "F".

.. بحدود ما تسمح به السقاية البعلية دون الاعتماد على وسائل الري الأخرى

ولتحديد مكان هذا القصر على الخارطة الطبوغرافية للموقع، لا بد لنا من توضيح شكل هذا التل الأثري على أرض الواقع. هذا التل هو من نوع التلال التي يسميها علماء الآثار بالتلال "الاهليليجية"، وهذا الشكل من التلال الأثرية، يقع وسط سهل زراعي واسع الأرجاء، وبالقرب منه يمر نهر كان في الماضي غزير الجريان يطلق عليه اسم نهر "الخور"، والخور في اللهجة "الرقية" يعني الساق الكامل.

حفريات أعلى التل

كان العامة من الناس يسكنون في بيوت صغيرة خارج أسوار المدينة، وحين يحيق بالمدينة خطر داهم، يلجؤون إلى داخل الأسوار طلباً للحماية وللدفاع عن المدينة. ومن خلال دراسة بقايا النباتات، وأنواع المزروعات يبدو أنّ تل "خويرة" كان كثير الخيرات، خاصة أنه يقع على الخط المطري الأول /500/مم سنوياً، ومن خلال الرسم الذي حدده جهاز المسح الجيوفيزيائي لمخطط المدينتين العليا والسفلى، يتبين لنا أنّ المدينة وضواحيها عرفت تطوراً اقتصادياً طيباً، انعكس على حياة السكان "الزراع": «.. ولا نستبعد أنّ السكان في بعض العصور التاريخية كانوا يتحكمون أكثر من اليوم بمصادر مياه زادت من خصوبة الأرض». د. "فينفريد أورتمان"، د. "علي أبو عساف"، "أ. "محمد وحيد خياطة"، "تل خويرة"، ط: "ألف باء"، ص /8/. "دمشق" /1990/م.

يقع هذا التل بالقرب من الحدود التركيةـ السورية شمال مدينة "الرقة" بحدود /110/كم، ويبعد عن نهر البليخ حوالي /40/كم شرقاً. أما نهر "الخابور"، فيبعد عنه مسافة /60/كم في جهة الشرق، ومع ذلك ولكي نستطيع رسم صورة ذهنية أكثر وضوحاً للمنطقة الشمالية الشرقية في منطقة "الجزيرة"، نؤكد وبدقة أكثر أنّ هذا التل يقع في المنطقة الواقعة بين نهري "الخابور" و"البليخ"، وهما من الروافد الرئيسة لنهر "الفرات"، وتشكل المنطقة الواقعة بين مجرى هذين الرافدين سهولاً منبسطة بنسبة /90%/، من مجمل مساحة كل من منطقتي "الرقة" و"الحسكة"، هذه المساحة المترامية الأطراف تجتازها مجموعة من الوديان السطحية، التي لا تسيل فيها المياه إلاّ في الأعوام التي تكون الهطولات المطرية فيها غزيرة. ومن أهم الأودية التي تمر بالسهل المحيط بتل "خويرة" كبيرة، وتل "خويرة" صغيرة المجاورة للكبيرة من جهة الجنوب، نشير إلى وادي كبير هو "الوادي الأحمر" الذي يتغذى بمياه وديان صغيرة قادمة من سفوح جبال "طوروس"، التي تجري من الشمال إلى الجنوب، لتصب في هذا الوادي، الذي يجري من الشرق إلى الغرب، ثم نراه بالقرب من "خويرة" يتجه من الشمال إلى الجنوب، وفي الماضي كان هذا الوادي الضخم يشكل رافداً من روافد نهر "البليخ".

من حفريات التل

وفي زمننا الحاضر، فإنّ كمية الأمطار التي تجود بها السماء سنوياً في المنطقة الممتدة من الأطراف الشرقية لجبل "عبد العزيز" في "الحسكة"، والذي يناظر سهول تل "خويرة" من جهة الشمال الغربي، فهي تكفي لممارسة الزراعة: «.. بحدود ما تسمح به السقاية البعلية دون الاعتماد على وسائل الري الأخرى». "المصدر السابق"، ص: /8/.

للتل سوران الأول يلف المدينة التحتانية، والثاني يلف المدينة الفوقانية بمعنى أنّ المدينة سكنت في عهدين مختلفين، التحتاني هو الأقدم، والفوقاني هو الأحدث. وضمن هذين السورين، تتوضع كافة الأبنية الدينية والمدينة، ولما كان الامتداد الجغرافي للموقع من الشرق إلى الغرب أطول نسبياً من امتداده من الشمال إلى الجنوب، فإنّ القصر "F" يحتل القمة الظاهرة جنوب المدخل الغربي لسفح التل الممتد في وسط المدينة السفلى "الفوقانية". ويشكل الجدار الشمالي لهذا القصر حدوداً مميزة عن المباني التي تليه من هذه لجهة، ولهذا الجدار أساسات تتألف من أحجار من الصخر كبيرة الحجم تمتد من الزاوية الشمالية الشرقية باتجاه الغرب بحدود /50/م تقريباً.

من مكتشفات التل

في بداية الحفريات الأثرية القديمة، لم تكن عملية تأريخ هذه المنشأة المعمارية واضحة، لكن في الحفريات اللاحقة استطاع الآثاريون تأريخ تشييد هذا القصر بحدود عام /2300/ق.م، وذلك بواسطة اللقى الفخارية التي عثروا عليها في داخل البناء.

يتميز هذا القصر بجدرانه العريضة المشيدة بمادة اللبن المشوي، ذات الشكل المربع فوق أساسات من الحجر الصخري، كما أشرنا سابقاً، ويبدو أنّ جدرانه قد طليت بمادة الجص بعناية فائقة. في الشمال والشرق تكون أرضيات هذا المبنى منخفضة، أكثر من أرضيات الأقسام الداخلية، وهذه إشارة إلى أنه بني بشكل متدرج، بمعنى أنّ هذا البناء شيد فوق أبنية أقدم عهداً. وكانت الحرائق وعوامل الطقس ألأخرى، قد حفظت قدراً كبيراً من جدران هذا القصر بارتفاع حوالي ثلاثة أمتار فوق أرضيات الغرف. وبسبب الكم الهائل والكبير من الردميات والمخلفات، لم يستطع المنقبون من الكشف عن الغرف إلاّ بحدود إظهار أرضياتها. كما أنّه تم ملاحظة وجود ممرات ضيقة، تفصل واجهة البناء الشمالية الكبيرة عن نواة البناء الرئيسة بما طوله /50/م.

كما عثر المنقبون على أرضيات واسعة مبلطة وغرف كبيرة وقاعات رئيسة وأخرى ثانوية. واللقى الفخارية المنتخبة التي تم العثور عليها في داخل الغرف، تشير إلى أنّ صناعة الفخار والأواني الفخارية، كانت تشكل مرفقاً اقتصادياً هاماً خلال عصر فجر الحضارة السورية. وعلى ما يبدو، ومن خلال ما تم العثور عليه من بضاعة فخارية في بلاد الرافدين صنعت في تل "خويرة"، أن الناس في هذا الموقع كانوا يزاولون هذه المهنة بشكل واسع في ورش داخل المدينة وخارجها، بدليل أن البعثة المنقبة قالت: «.. وكان الناس يمارسون هذه المهنة اليدوية في ورش داخل المدن، بدليل عثورنا على بقايا أفران، لشيء الفخار في الحي المسمى حي الفخارية». "المصدر السابق"، ص: /30/.

ومن أنواع وأشكال الفخار الذي تم العثور عليه في غرف هذا القصر، فإننا نشير إلى: «أنّ أغلب الأواني الفخارية المكتشفة، هي عبارة عن كؤوس وأباريق وجرار كبيرة ومتوسطة لحفظ الأطعمة والمؤن».

"محمد العزو"، "حضارة الفرات الأوسط والبليخ"، "دار الينابيع"، ص: /89/. "دمشق" /2009/م.