حالة حميمية واضحة نجدها من خلال زيارتنا لريف "دمشق"، حيث البيوت الطينية التي بنيت من "التبن، والّلبن، والطين" لها دفؤها المعماري الخاص المرتبط بعفوية المزارع وبساطة ذلك القروي الذي عجن وبنى تلك الجدران بيديه وبرفقة عائلته الصغيرة، كما أن لتلك النقوش والفنون التي رسمت على جدرانها من الخارج عمقاً فنياً واضحاً مرتبطاً بحضارة ريفية نابعة من علاقة الإنسان بالطبيعة.

موقع "eSyria" التقى الأستاذ والباحث التاريخي "محمود محفوظ" ليحدثنا عن الأبنية الريفية التي كانت تصنع من التبن والطين، وعن عدم استخدام بعض المناطق للحجارة في البناء، حيث قال: «من خلال جولة ميدانية بين الأبنية القديمة للبلدات المجاورة لدمشق يتبين بكل وضوح اصطفاف وتلاصق هذه الأبنية على أنساق متعرجة وفوضوية، تفصلها ممرات وأزقة كثيرة التعاريج قد لا تتعدى عرضها غالباً إلا بما يسمح لمرور الدواب المحملة فيها، كما يلاحظ المشاهد من الخارج إلى هذه الأبنية بساطة المباني التي شيدت جدرانها من الّلبن والطين وقلّة النوافذ المطلة على الأزقة، ويلاحظ الداخل إلى هذه الدّور سعة ساحاتها الداخلية واستخدام خشب "اللزّاب" القاسي المقطوع من غابات الجبال المجاورة وأعواد القصب والزيزفون والشيح في سقف غرفها».

إن المباني القديمة كانت مدروسة من كل النواحي، ظهور الشمس ومغيبها، دخول الهواء وخروجه، إضافة إلى أن هذه المواد الطبيعية المستخدمة في البناء لها فوائد صحية، وهي متينة وقوية، كنا نرممها بين الفترة والأخرى، وثمة أدوات خاصة للبناء بالتبن والطين، هاتين المادتين اللتين كانتا من أهم المواد المستخدمة في البناء قديماً

وعن سبب استخدام القدماء للحجارة في البناء يقول "محمود": «نجد أن الإنسان القديم في المنطقة بشكل عام حينما يريد بناء مسكنه يخضع للمعطيات المتوافرة في البيئة المحيطة به، وبالطبع ما كان أيسر عليه من الحصول على قطع اللّبن المصنوع من التبن والتراب، وعلى الأخشاب المقطوعة من أشجار غابات الجبال المحيطة لسقف بيته، بمعنى أن افتقار المنطقة إلى المقالع الحجرية أو لارتفاع تكاليف الحصول عليه بالإضافة إلى أسباب أخرى اضطر ساكن المنطقة لاستخدام التراب والتبن في تشييد الأبنية».

صحن الدار

"الّلبن والتبن" كانا مادتين رئيسيتين في البناء، وهنا يقول: «كان استخدام هذه المواد ملائماً للمناخ وذلك لما تتميز به هذه المواد من خصائص مميزة، كقدرتها على العزل الحراري وبالتالي إمكانياتها في درء تقلبات درجات الحرارة بين برد وحرّ، وقد تثبت السكان من ذلك مؤخراً من خلال ملاحظتهم الملموسة لضآلة الفارق الحراري بين حرارة النهار وبرودة الليل أو بين حرارة الصيف وبرودة الشتاء التي توفرها مثل هذه الأبنية بالمقارنة مع ما يعانون منه في المساكن المُشادة من المواد الإسمنتية، وعليه ولكي يخفف المتورطون في استخدام مادة الإسمنت لبناء بيوتهم مما تسببه لهم من إزعاجات حرارية لجؤوا مضطرين إلى تغطية أسطح البيوت إما برفع طوابق عليا أو إلى إكسائها بالبلاط، بالاضافة إلى استخدام شتى وسائل التكييف الكهربائية صيفاً ووسائل التدفئة شتاءً».

حالة البناء كانت مرتبطة بأمور نفسية وأخرى عاطفية، وعن ذلك يقول: «سبب تفضيل المعمرين في هذه المنطقة لاستخدام اللّبن والأسقف الخشبية في البناء، لما توحي في نفوسهم النظرة إلى مثل هذه الأبنية من مشاعر الحنين للماضي المشحون بالذكريات ومن إحساسهم بملامسة الطبيعة، وهذا على عكس ما تثيره فيهم نظرتهم إلى تلك الأسقف "البيتونية" من قسوة الحضارة ومن أسى ارتحال الذكريات والعواطف والمشاعر والقيم الإنسانية الموروثة».

بيت التنور

كانت لكل طبقة مواصفات لبناء بيوتهم، وعن دار الفلاح أو المزارع يقول الأستاذ "محمود": «عندما كان يريد الفلاح القيام ببناء داره فمن الطبيعي أن يأخذ في عين الاعتبار وجوب تصميمها على نحو تؤمن له عدة أغراض تتلاءم مع نمط حياته وطبيعة عمله، ولهذا تتداخل لديه حين تصميمها عدة عوامل، منها البحث عن تأمين دخول النور والضوء والحرارة إلى الغرف، وهذا أمرٌ يتعلق طبعاً بموقع المنطقة الجغرافي، مثل فتح أبواب ونوافذ غرفهم باتجاه الجنوب جهة أشعة الشمس مثلاً وإقامة ما كانوا يسمونه "الّليوان" وهو عبارة عن بهو مفتوح بين غرفتين يطل على أرض الدار، كان يستخدم للاستمتاع بالجلوس فيه صيفاً كما يفيدهم بتوفير النور والإضاءة للغرف الجانبية عبر النوافذ المطلة عليه، ويستفاد منه أيضاً في حماية الأبواب من أشعة الشمس المباشرة ومن تأثير الأمطار وتخفف دخول الرياح الباردة إلى هذه الغرف بشكل قوي، ولتحقيق هذه الأغراض كان الفلاح يستخدم في إنشائه "القنطرة" القوس لرفع سقفه لجهة صحن الدار».

ويتابع: «أما العامل الثاني فهو أثر المكانة الاجتماعية لصاحب الدار، وذلك كان يتطلب اتساع عرض الباب وارتفاع "ساكفه" أي بابه الخارجي عندما يكون صاحب البيت مضيافاً وكثير الزوار، ومن هنا تأتي المقولة الشعبية المعروفة التي تقول "اللي بدو يصير جمّال، لازم يعلي باب دارو"، وهنا اود أن أذكر أنه غالباً ما يكون الباب مقنطراً بالحجر المنحوت دليل الرفاه المادي والعلو الاجتماعي.

بئر الماء

أما بالنسبة للغرف هناك غرف خاصة بالحريم في صدر الدار بعيداً عن سمع العابرين في الشارع هناك فبإضافة إلى الغرف الموزعة على جانبي صحن الدار هناك غرف علوية لها شرفة خشبية كانت تعرف باسم "الرّوشد" وهي أيضا دليل الرفاهية والعيش الرغيد، كما توجد على الدوام غرفة واسعة قرب باب الدار لاستقبال الضيوف تدعى "المنزول"، أما ما تبقى من غرف فهي مخصصة للخدم».

عن أقسام دار سكن الفلاح والمزارع يقول: «من البديهي أن يأخذ الفلاح بالحسبان حين تشييد مسكنه في أن يقيم هذا المبنى ليؤدي ثلاث وظائف رئيسية في آن واحد، الوظيفة الأولى بما يخص العائلة، حيث يجب بناء غرف على عدد الأولاد المتزوجين، وبناء المضافة "المنزول" وهي غرفة تخصص في دور الوجهاء، وزعماء الأحياء والمخاتير لاستقبال الضيوف وقد تتحدد مساحتها بما يتلاءم مع الموقع الاجتماعي لصاحبها. والوظيفة الثانية بما يخدم الماشية والدواجن، حيث تبنى الزرائب والاسطبلات ومستودعات الخزن مثل "بائكة" لمبيت الدواب وإطعامها، وكذلك قن للدجاج و"المتبن" وهي عبارة عن غرفة تستخدم لخزن التبن وعلف الحيوانات لها فتحة من السقف "قافعة" لإسقاط التبن عبرها إلى الغرفة، أما غرفة الحطب فتستعمل لخزن أعواد "الجرزون" أي الأعواد الجافة المقتطعة من الكروم أثناء تقليمها أو لخزن بعر الماعز والغنم، أو لحفظ أكداس روث البقر المجففة ليصار إلى استخدامها كوقود في أيام الشتاء».

يكمل الأستاذ "محمود محفوظ": «أما غرفة الأدوات الزراعية فتستخدم لحفظ الأدوات الزراعية "الرفش، المرّ، القزمه، النير، الكدانة، المحراث، المذارة، الطبّاشة والقدوم.."، و"الحاصل" هو غرفة لخزن المحاصيل الزراعية مثل "القمح، الشعير، الزبيب، البطاطا"، وتلي غرفة الأدوات الزراعية "بيت التنور" وهو غرفة صغيرة يفضل تشييدها غالباً في إحدى زوايا الدار، أما صحن الدار فهو الفسحة السماوية للدار وقد يخصص قسم منها ليكون مصطبة مرتفعة قليلاً عن مستوى أرض الدار تستخدم للسهر في ليالي الصيف أو لإنجاز الأعمال الجماعية في مجال التموين مثل "التحسيك، التكشيك وتحضير البرغل وغربلة القمح"، كما لا تخلو عادة من أحواض النباتات أو الزريعة "الجنينة" مثل نبات "الريحان، أشجار الورد الجوري، أشجار الرمان، التوت أو البيلسان"، وهذا ما كان يضفي على الدار منظراً جميلاً، وكانت هناك نافذة مفتوحة في الجدار الفاصل بين الجيران على نحو يسمح بتمرير صحن الأطعمة وتبادله فيما بينهم أو بغرض تبادل الأحاديث والأخبار أيضاً».

أما دار الراعي "مربي الماشية" فينهي الأستاذ "محمود محفوظ" الباحث التاريخي حديثه عنه: «تتميز دار الراعي عن دار الفلاح أو المزارع بضرورة احتوائها على حوش "صيرة" أو مساحة واسعة لمبيت المواشي، وعلى مخزن كبير للعلف ومأوى للكلب الذي يقوم بحراسة القطيع، أما عن دار المكاري "الجمّال"، فاشتغلت بضع عائلات في البلدات المجاورة لدمشق بالمكاراة أي بتأجير جمالهم وأحصنتهم للآخرين بغرض نقل المزروعات أو البضائع التجارية إلى المناطق والبلدات المجاورة لقاء أجر معين، وقد كان دار "المكاري" وفي الخصوص "الجمّال" تتميز قبل كل شيء بعلو "ساكفها" أي بابها الخارجي وكذلك باب "الزريبة" بيت الجمل ليتمكن من إدخال الجمال إليها، واللافت هو ربط ضرورة علو سقف باب الدار هذا ليتخذ لدى الأهالي مفهوماً أخلاقياً واجتماعياً، حيث ارتبط بلزوم الكَرَم وتقديم الأكل لكل من يتطلع إلى الزعامة الاجتماعية».

ويقول أحد المُعَمرين السيد "عبد الباقي الأحد" مارس العمارة قديماً: «إن المباني القديمة كانت مدروسة من كل النواحي، ظهور الشمس ومغيبها، دخول الهواء وخروجه، إضافة إلى أن هذه المواد الطبيعية المستخدمة في البناء لها فوائد صحية، وهي متينة وقوية، كنا نرممها بين الفترة والأخرى، وثمة أدوات خاصة للبناء بالتبن والطين، هاتين المادتين اللتين كانتا من أهم المواد المستخدمة في البناء قديماً».

كما يحدثنا المهندس المعماري "رشيد حاج عبدو" عن أهمية البيوت الطينية القديمة، فيقول: «إن المباني القديمة كان لها طابع خاص مرتبط بطبيعة المناطق الريفية، حيث يبنى البيت الريفي بجدار سميك مؤلف من حجرين متقابلين بجانب بعضهما وتسمى "حبتين"، تتخلل بينهما الأتربة والطين والأحجار الصغيرة التي تسمى "جمشة"، أما العتبة التي تبنى فوق الباب فقد تعمر بأحجار طويلة تشكل جسراً فوق الباب أو تستبدل بقطع خشبية يبنى فوقها حجارة عشوائية حتى تصل إلى السقف ويسمى هذا البناء بناء الحجر الغشيم، وقبل سقف البيت يثبت في وسطه خشبة ثخينة ومتينة بشكل عمودي تسمى "الساموك"، ومن خلال هذه المواد نجد أن الأجداد اعتمدوا كثيراً على المواد المتوافرة في البيئة لمعظم ما يستخدمونه من أثاث مثل "الخالية" أو "القفير" وهي وعاء متوسط الحجم يصنع وينسج من أعواد الريحان تستخدم في نقل سليقة القمح الذي يسلق بغية صنع البرغل كما تستخدم في غسل الحبوب من التراب وغيرها وتسمى العملية تصويل الحب، وفي أسفلها فتحة صغيرة تسد بخرق تسمى "بزيلة" وتوضع فيها الحبوب من "قمح وشعير وحمص وفول" وغيرها، ثم انتشرت العنابر المصنوعة من الخشب، وكل ذلك يصل بنا إلى أن الحضارة المعمارية في الريف السوري كان لها عمق هندسي مرتبط بالمواد الطبيعية المتوافرة في تلك البيئة، وهنا يكمن سر دفء تلك البيوت في الشتاء وبرودتها في الصيف، ولا ننسى أن تلك الجدران الطينية الريفية رسم عليها الكثير من النقوش والفنون التي تدل على أهمية العمارة والمباني الريفية القديمة».