التنسك والرهبنة ظاهرتين وُجدتا في جميع العقائد الدينية والروحية عبر التاريخ، فقد تضمنتها العقائد الدينية في العالم القديم وذلك قبل ظهور الأديان السماوية الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية واستمرت فيها.

حول الرهبنة كفكرة دينية وتاريخية يقول الأستاذ "زكريا الحصري" مدرّس مادة التاريخ في ثانويات "حلب" لمدونة وطن eSyria:

لقد كانت في البداية فردية بانعزال الراهب أو الناسك عن الناس في دغل أو كهف أو اللجوء إلى أحد الأبراج أو الإقامة على عمود، وكان القديس "سمعان العمودي" رائد النسك العموديين

«الرهبنة هي فكرة دينية قديمة أسلوبها الزهد في الحياة والانصراف نحو عبادة الله، وهي شكل من أشكال التقشف يتضمن تنظيماً وتقيداً وإنكاراً للذات في الجوانب المادية والجسدية بهدف الخلاص الروحي، ويتحقق ذلك للزاهد بطريقتين هي إما انسحابه من المجتمع بمغرياته ولهوه وفساده أو التحكم الصارم في الحياة الاجتماعية حتى تصبح البيئة مناسبة له ولطبيعة حياته».

برج ناسك في قرية سليمان

ويتابع بالقول: «لقد بينت الدراسات الدينية وجود رهبان بوذيين اعتزلوا العالم وحياة الدنيا على خط معلمهم "بوذا" وكذلك ظهرت حياة التقشف وترك متاع الدنيا باللجوء نحو الجبال والطبيعة بكل ما فيها من قسوة في الديانة الزردشتية، وفي الكونفوشية أيضاً ظهرت مبادئ تربية الجسد اعتماداً على الشدة والقسوة والانعزال، وفي الديانات السماوية استمرت فكرة التقشف والرهبنة».

وحول الدوافع التي أدت إلى ظهور فكرة الرهبنة يقول "الحصري":

بقايا عمود في قرية كيمار

«هناك دوافع دينية تتمثل بأنّ لهذه الفكرة جذور في الكتب الدينية وتعاليم الأنبياء شجعت الناس على ترك الدنيا والتخلص من شرورها، وهناك دافع الاضطهاد والظلم الذي تعرض له المؤمنون الأوائل حيث دفعت الكثيرين منهم للهرب نحو البراري والصحاري والاعتصام في الكهوف لإنقاذ حياتهم، كما ساهمت الحروب والغارات التي نشرت الخراب والدمار في كل مكان ولا سيما في "أوربة" أيام "البرابرة" في دفع الناس للبحث عن الأمن والطمأنينة داخل الكهوف والأديرة».

ويضيف: «وهناك الدوافع الاجتماعية والاقتصادية التي كانت دافعاً أساسياً للرهبنة بسبب الانحلال الخلقي الذي ساد المجتمعات مما دفع الأتقياء الهروب والابتعاد عن الشرور، وكذلك ساهمت المجاعات وصعوبة الحياة الاقتصادية في نمو فكرة الرهبنة، وأخيراً كانت هناك الدوافع المعرفية والفلسفية ومضمونها الوصول للمعرفة وحقيقة الحياة والموت واكتشاف الطبيعة والخالق والتأمل في الكون وغيرها ولم يكن الوصول لذلك بغير نقاء الروح والصفاء الكامل».

برج ناسك في قرية زرزيتا

وحول طرق ممارسة الرهبنة يقول وبه يختم حديثه لموقعنا: « تؤكد أغلب الدراسات بأنّ الرهبنة كانت تُمارس في البداية بشكل فردي من قبل النساك وذلك باللجوء إلى المغاور والكهوف أو الصحارى أو قمم الجبال للابتعاد عن حياة الدنيا ومفاسدها ثم ظهرت مع الزمن الرهبنة الجماعية، بمعنى انتقالها من كونها حركة فردية إلى حركة ديرية جماعية».

أما الأستاذ "عبد الله حجار" فيقول في كتابه -كنيسة القديس "سمعان" العمودي وآثار جبلي "سمعان" و"حلقة"- حول الحياة النسكية والنساك ما يلي: «لقد كانت في البداية فردية بانعزال الراهب أو الناسك عن الناس في دغل أو كهف أو اللجوء إلى أحد الأبراج أو الإقامة على عمود، وكان القديس "سمعان العمودي" رائد النسك العموديين».

«أما المرحلة الثانية فهي التنسك الجماعي حيث ينضم مجموعة تلاميذ من النساك إلى ناسك وقور ومشهور مقتدين بمعيشته منتحلين تقشفاته فيعمدون لبناء ديرٍ مستقل يمارسون فيه حياتهم، وكان الدير يشتمل عادة على كنيسة صغيرة وقاعة طعام وحجرات إقامة صغيرة».

وحول ظهور التنسك بقسميه الافرادي والجماعي في "سورية" يقول: «ربما بدأ التنسك الافرادي في القرن الثالث الميلادي، بينما انتشرت الأديرة في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد وتطورت في القرن الخامس لتصل أوج ازدهارها ونضجها في القرن السادس وهو العصر الذهبي للمسيحية في "سورية" التي أصبحت تدين بكاملها بالمسيحية ذلك أنّ مرتفعاتها وسهولها قد امتلأت بالأديرة والكنائس والأبنية الصغيرة التي لا تحصى للنساك في الأبراج وعلى الأعمدة».

ويتابع: «لعل "مار مارون" كان من أقدم النساك الذين عاشوا في العراء وربما كان حقل عمله الرسولي في منطقة قلعة "كالوطة" في جبل "سمعان"، وبالنسبة لنساك الأبراج في جبال الكتلة الكلسية* فقد انتشرت أبراجهم في قرى "برج سليمان" و"برجكة" و"بنا سطور" و"برج حيدر" و"دير مشمش" و"دير عمان" و"تل عقبرين" ودير "براد" وغيرها».

«لقد بينت الأبحاث الأثرية وجود العديد من الأديرة في جبال الكتلة الكلسية، ومن الأديرة دير "مارس بن برعطون" في الشمال الغربي من قرية "تلانيسوس" (دير "سمعان" حالياً) ودير "تلعادة" الكبير في السفح الجنوبي لجبل "الشيخ بركات" و"الدير الصغير" ("برج السبع") الذي لجأ إليه "سمعان العمودي" ليقضي فيه عشر سنوات من حياته، إضافةً إلى العديد من الأديرة التي انتشرت في المنطقة».

«أما النساك العموديين فهم نساك أقاموا على أعمدة ليكونوا على صلة أكثر مع الله ويقضوا حياتهم في سكون مطلق معتنقين روحانية عميقة لا تخضع لقوانين وضعية، لقد كان "سمعان العمودي" /386 -459/ م رائد النسك العموديين الذين اختاروا العمود أداة لاستشهاد الروح وقد اقتدى بطريقته العديد من النساك الذين أقاموا على أعمدة، ومن الأعمدة الموجودة عمود لقديس مجهول في قرية "كيمار" وعمود "أوستات" العمودي في بلدة "تقاد" وعمود "سمعان العمودي" في قرية "أرحاب" وعمود في دير قرية "براد" وعمود في قرية "قرزيحل" أقام عليه ناسكان أصبحا بطريركين للسريان هما "يوحنا الرابع" /910/ و"يوحنا السادس" /954/ م وهناك عمود في الدير الشمالي الغربي من قرية "تلانيسوس"، كما وُجد عمود ناسك إلى الشمال الشرقي من خربة "الشيخ بركات" وغيرها من الأعمدة».

  • الكتلة الكلسية: تقع شمال "سورية" وتشمل منطقة تمتد من الشمال إلى الجنوب بطول /140/ كم وعرضها / 20 -40/ كم يحدها شرقاً طريق "حماة" -"حلب" -"إعزاز" وغرباً واديا "العاصي" و"عفرين".