الليل كلمة طالما اقترنت بالهدوء والسكينة، وبالخوف والألفة، حيث حملت المتوافقات والمتناقضات بآن واحد، كما احتوت السمر، والاغتراب للشاعر الفراتي بذات الوقت، ولم يكن نصيباً له فحسب من بين أقرانه، بل إنه كان لأسلافه أيضاً. يقول "امرؤ القيس":

وليل كموج البحر أرخى سدوله/ عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

وقد شغل حيزاًَ كبيراً من الشعر الشعبي العربي عموماً، والفراتي بشكل خاص بألوانه المختلفة، بيد أنه بدا أكثر ظهوراً في لون "النايل"، ذلك اللون الذي يتراءى وكأنه مزيج من الشباب والحب والنسيم والشعر والجمال.

باب بغداد في الليل

حيث شكا فيه الشاعر الفراتي فيه من عنين القلب، ذلك العنين الذي كان الحبيب سبباً له، وسلامه الذي ألقى به من رؤوس أهدابه.

القلب عن وحدو توالي الليل منشانك/ تسلم بطرف الهدب يا زغر وجدانك

كما كان سبيلاً لرحيل النوم، حيث عشقت الجفون السهر لأجله، وإنه لمجنون من لامه جراءَ ذلك.

عزيز قلبي عليك الليل ما ناموه/ الجفن هاوي السهر مجنون لوامه

وهو يخشى ظهور الشفق، خشية منه أن يقف حائلاً بينه وبين رؤية الحبيب.

جاعد واتاني طويل البال ما جاني/ خايف يبين الشفق ما اشوف خلاّني

وهو يعجب من الحبيب الذي يسأل عن سبب قدومه، وهو الذي قصده بذلك الليل الحالك، وقد انتظره حتى أوشك القمر أن يضحي.

جيتك بظلما تقول لي شعناك؟/ ضحضح عليّ القمر واني برجواك

ويشعر بالغبطة حينما يذكر جلوسه والأحبة وبيت الشعر يحيط به، رواقان (إشارة لبداية البرد)، والقمر بأواخر أوانه، ومنتصف الخريف.

ياما قعدنا سوى والبيت برواقين/ والقمر تالي شهر مابين تشرينين

وقد فضل السهر مع الأحبة على لذيذ النوم، سيما إنه يطلب منه ذلك، ويكرر طلبه كلما همّ بالوقوف.

ياما قعدنا سوى وعفنا لذيذ النوم/ يزعل علينا الولف كلما نريد نقوم

وإن كان الحبيب بمنازل بعيدة عنه، فإنه سيطأ الليل ويأتيه حيث كان.

من قفا الكارة لدوس الليل واجيكم/ تطرّفم بالعرب بلكي نلاقيكم

ولقد غاب القمر وجاءهم يبتغي الشفاء، فلقد أعجز الطبيب علاج من طعنوه بالهوى:

غاب القمر غاب تراني جيتكم يا حباب/ طعينكم بالهوى محد لقى له طباب

ثم لا يلبث أن يرحب بالقمر بعد مجيئه، لأنه يحمل له أخبار الحبيب، فلقد رآه وقد هلّ فوق دياره.

يا مرحبا بالقمر طارش حبيبي وجيت/ عيني عليك المسا من فوقهم هليت

ويشكو لليل من غشاوة الحزن التي كللت قلبه فهام، ويسأله إن لم يكن مصدقاًَ فليسأل النجوم عنه.

قلبي غشاه الحزن هيمتني يا ليل/ اسأل بنات النعش والفرقدا وسهيل

ولقد أشرف الليل على الرحيل، لكنّ نفسه لم ترتوِ من رؤية الحبيب وتبادل الحديث معه.

الليل طرّف أشوف النجوم ما غابت/ ومن عشرتك يا حلو النفس ما طابت

ثم يسأل الليل بعد رحيله هلاّ أغمض جفنيه، كيف ذلك وقد حرم من رؤية الحبيب.

مصّح يا ليلٍ مضى، عيني خذاها النوم؟/ وشنهوا اليصبر القلب المن شوفتك محروم؟

هذا هو الليل كما رآه الشاعر الفراتي، وهذه صورة من صور عدة تحدث في بعضها عن النجوم والنسيم والذئب والبوم، كأشياء ذكرت معه، وشاركت الشاعر اغترابه، وألبسها حباً عفيفاً صادقاً دغدغ الوجدان، ورحل بنا إلى ليلٍ تسمع فيه أصوات طالما افتقدناها، وأحببنا أن نستبدلها بذلك الصخب الذي ملأ نفوسنا حتى في أوقات الهدوء والسكينة، التي خصنا بها الخالق سبحانه وتعالى.