من درب الخير الذي يمتد بين بوابة "الله" وباب "مصلى" والذي يعرف اليوم بمنطقة "ميدان جزماتية"، من ذات الدرب الذي كان ينطلق منه موكب الحج من "دمشق" إلى الأراضي المقدسة في "الحجاز" انطلقت جولتنا في حي "الميدان التحتاني" بتاريخ 20/9/2008 حيث انضم موقع "eSyria" إلى جولةٍ نظمتها الأمانة العامة لاحتفالية"دمشق" عاصمة الثقافة العربية /2008م/ وذلك ضمن تظاهرة "شامنا فرجة" التي أطلقتها منذ خمسة أشهر، وتحتفل فيها شهرياً بحي من أحياء المدينة العتيقة.

حي الميدان تاريخياً كان بداية المحور المنطلق جنوباً باتجاه "معان والحجاز" بدأ في العهد الأيوبي بمجموعة من الترب المبعثرة، والتي أصبحت أكثر تنظيماً في العهد المملوكي وتميزت بطرازٍ معماري خاص، قبل أن يأخذ الحي شكله التنظيمي في العهد العثماني. وعن خصوصية هذا الحي وتطور تاريخه العمراني حدثتنا الدكتورة "سراب أتاسي" الباحثة في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى والتي تولت قيادة الجولة:

أنا من حي"القيمرية" لكنني أحمل في قلبي حباً كبيراً لهذا الحي وأهله.. هم مضيافون وأصحاب نخوة، ويمتازون باعتدادهم بأنفسهم ووطنيتهم، فبعد كل تلك السنوات مازالوا متأثرين بشيخ الثوار "حسن الأشمر"..

«خصوصية هذا الحي تكمن في تفرده من حيث الشكل، فهو أشبه بالخيط الممتد من باتجاه الجنوب.. تاريخياً تطورت مدينة "دمشق" حول عصبين الأول هو شارع "فيصل" أو الطريق السلطاني، والثاني هو طريق "الميدان" المتميز بامتداده، المرحلة الأولى من عمارة "الميدان" كانت في الفترة الأيوبية والمملوكية حيث كان تبنى الأضرحة والمدافن الفخمة ذات الواجهات العريضة، والمكسوة بالقاشاني الأزرق، هذه الترب ومنها "التربة الزويزانية، وأراك.." أعطت تميزاً لحي "الميدان"، فضلاً عن الجوامع الثلاث: "الدقاق أو الكريمي"، وجامع "منجك" القريب من حمام "فتحي" في "الميدان الوسطاني"، ومصلى العيدين في المنطقة الشمالية وحول هذه الجوامع تطورت السويقات والتجارة.. وفي العهد العثماني شهد حي "الميدان" ازدهارا اقتصادياً بسبب وجوده على طريق الأراضي المقدسة، وعلى طريق أراضي "حوران" الغنية بالقمح والحبوب، مما جعل بوائك القمح تنتشر على جانبي درب الخير أي "الميدان الوسطاني" المعروف اليوم بالـ"جزماتية" وقد وصل عددها إلى/254/ بائكة- مخزن قمح» وتتابع د."أتاسي": «على يسار درب الخير من جهة باب مصلى وباتجاه الجنوب، أخذ حي "الميدان التحتاني" شكله في العهد العثماني، حيث توزع على خمسة أزقة متوازية انتشرت على مساحة خمسة هكتارات تقريباً، هذه الأزقة هي: "العسكري، الجامع، المحمص، القرشي، والموصلي" وتعود عمارة هذه الأحياء إلى القرنين السابع والثامن عشر، وفيها بيوت فخمة وجميلة تميزت بكثافة استخدام الحجر الأسود القادم من المناطق الجنوبية في سورية..»

كان ذلك ملخصاً قدمته د. "أتاسي" لموقع "eSyria" عن تطور حي "الميدان" تاريخياً، كمقدمة لجولتنا في أزقة حي "الميدان التحتاني" الذي يقع خارج أسوار "دمشق" التاريخية، وفي هذه الجولة شاهدنا واجهات البيوت التي تتفاوت في فخامتها وقدم عمارتها، وتطل بصورة مباشرة على أزقة فرعية تتوزع بشكل منتظم، حيث لا توجد انحناءات أو دهاليز ضيقة كما هو سائد في معظم أحياء "دمشق" القديمة، ومما لاحظناه أيضاً وجود ساحة كبيرة فارغة بين البيوت داخل الحي، أكد لنا الباحث "عصام حجار" أنها تعود إلى سنة/1925م/ حيث قصفت قوات الاحتلال الفرنسي "دمشق" كردة فعل على الثورة السورية الكبرى، مما تسبب في دمار عددٍ من المنازل بالكامل لم يتم إعادة بنائها، وتأكيداً على كلامه أشار إلى عددٍ من البيوت في المنطقة المحيطة تدل عمارتها أنها مبنية حديثاً (في أوائل القرن العشرين..).

والمفاجأة الكبرى كانت في زقاق "القرشي" وفيه شاهدنا باباً لبيتٍ دمشقي قديم لا يدل على وجود شيء مثير للاهتمام يخفيه وراءه، وإذا بهذا الباب يفتح على كنيسة عتيقة ما تزال بحالةٍ جيدة هي كنيسة "سيدة النياح".. القاطنون في هذا البيت لا يعرفون عن تاريخ بنائها شيئاً، كل ما يعرفونه أنها عتيقة جداً ولا تفتح سوى مرة واحدة في العام (14/8) حيث تقام الصلوات بمناسبة عيد انتقال "السيدة العذراء".. ولنرضي فضولنا للمشاهدة دخلنا الكنيسة لنستمتع بمشهد مهيب، حيث فتحت الأبواب على إضاءة خافته، وبالكاد كنا نرى الأيقونات العتيقة، ومعظمها تقدمات من المؤمنين أحدثها يعود إلى العام/1935م/.. وبعد أن جلنا بنظرنا في أرجاء الكنيسة فتح باب الاجتهاد للمحتشدين في ساحتها ومنهم اختصاصيون في الفن والعمارة، كل الاجتهادات كانت تدور حول تخمين تاريخ بنائها، وتقاطعت معظم القصص حول عام /1860م/ حيث حدثت فتنة طائفية دامية في "لبنان" دفعت العديد من المسيحيين للهروب من بلادهم، ومنهم من لجأ إلى "دمشق" حيث حماهم أهلها ومنهم أهالي "الميدان" حيث سكنوا في أزقة

"القرشي، العسكري، المحمص، والبرج".. وكانوا أوائل المسيحيين الذين سكنوا في الحي، ومن المعلومات التي عرفناها من جملة المداخلات التي تم تقديمها أن آل "المهايني" من وجهاء حي "الميدان" هم أول من احتضنوا اللبنانيين الهاربين من الفتنة، وأن المؤرخ الراحل "نقولا زيادة" المقدسي الأصل، والذي عاش معظم حياته في "لبنان" هو من مواليد زقاق "القرشي" عام/1902م/ وفق ما أكدت د. "سراب أتاسي". وفي نفس الزقاق توجد كنيسة "حنانيا الرسول". وبعد أن تمالكنا أنفسنا من دهشة ما شاهدناه في هذا الزقاق عدنا إلى درب الخير.. سوق "الميدان جزماتية" الذي تفوح منه اليوم روائح أطايب الطعام، ويشتهر بالمطاعم التي تقدم الأكلات الشعبية كالفتات الشامية ومنها: "فتة المقادم" بالإضافة إلى أفخر أصناف حلويات الشام.. وفي أول "الميدان جزماتية" عند حمام "فتحي" كانت فرقة العراضة بانتظارنا ليتحفنا "أبو فياض" وفرقته بعراضة "شامية/ ميدانية" «عالأصلي..»: سيف وترس، وأهازيج تغنت بأحياء الشام وأهلها، وكان النصيب الأكبر منها لأهل الميدان: «ميداني وكفك محنّا.. والثورة طلعت من عنّا..» في إشارة إلى ثورة "حسن الأشمر" على الاحتلال الفرنسي، والتي كانت جزءاً من الثورة السورية الكبرى. وعلى هامش العراضة قدم لنا "محمد لطفي غميان" ناشط اجتماعي من جمعية "أصدقاء دمشق" شهادته عن أهالي حي "الميدان" قال "الغميان": «أنا من حي"القيمرية" لكنني أحمل في قلبي حباً كبيراً لهذا الحي وأهله.. هم مضيافون وأصحاب نخوة، ويمتازون باعتدادهم بأنفسهم ووطنيتهم، فبعد كل تلك السنوات مازالوا متأثرين بشيخ الثوار "حسن الأشمر"..»

بعد عراضة "أبو فياض" اختتمنا جولتنا بزيارة حمام "فتحي" التاريخي والذي تحول استثنائياً إلى صالة عرضٍ سينمائي شاهدنا فيها متحلقين حول البحرة فيلماً وثائقياً عن حي "الميدان" من إعداد "لطفي لطفي" قبل أن تقدم لنا "الكنافة النابلسية والمشبك والعوامة" احتفالاً بزوار حي "الميدان التحتاني".