طالما حاولت تقليد ذلك الصوت الذي كانت تطلقه جدتي لتجمع حولها دجاجاتها دون جدوى أحاول ولا تقترب مني.. وأستغرب هل لصوت جدتي سحر؟ أو رائحتها؟ أم أن نوع الطعام الذي تنثره على تلك المسطبة أمام الدار مختلف..

كنت أعشق في طفولتي المبكرة ذاك الصوت المنبعث من بعيد تدعو دجاجاتها إلى الطعام تذر القمح وتقول " تعااا.. تعااا.. تعاه" مرات ومرات.. وكنت أتعجب كيف تلبي دجاجاتها الدعوة مع دجاجات جارتها لتجتمع على وجبة واحدة حول جدتي أكثر من ثلاثين دجاجة مع صيصانها والديك المتكبر الذي يأكل بنهم مع بعض السباقات والكثير من الأصوات لتلتقط كمية كبيرة من الطعام الذي نثر وقد يستمر لكفين أو أكثر بعد بدء وجبتها..

صديقات الطفولة وأنا كنا ننتظر الدجاجة "بق بق بقيق" معلنة أنها وضعت بيضة في المعشة، لأتسابق وصديقاتي إليها لتلتقطها إحدانا وتفوز بقليها بالزبدة..ولكن غالباً ما كنا نلتقط تلك البيضة التي وضعت من قبل جدتي كموودعة لتستدل الدجاجة إلى معشة البيض..

دجاجات جدتي ودجاجات جارتها يتلاقون منذ الصباح الباكر بعد أن يفتح لها باب القن ويتسامرون في تجوالهم ضمن بستان ليمون جدي، وينتقلون من مكان إلى آخر لتنقر العشب الندي وبعض الحبوب المتساقطة على تربة بستان الليمون وقد ينتقلون إلى بستان زيتون جار جدي.. ويتمايلون من مكان إلى آخر دون كلل أو ملل.. وحين تتوه إحدى الدجاجات عن القن والمعشة تبحث هذه الدجاجة عن مكان ملائم لتضع بيضها في مخبأ بعيد عن الأذى قد يكون بين شجيرات السرو،أو تحت ظل أشجار الليمون..أو ربما بين الأعشاب الخضراء.. وقد يبقى هذا المخبأ أياماً وأياماً قد تزيد عن العشرة، لتبدأ جدتي بعملية البحث عن دجاجتها التائهة وتنشدنا للمساعدة في ملاقاته. فتجده ربما بعد عناء، وتسعد بمشهد مجموعة البيض التي تساوي عدد الأيام التي تاهت بها الدجاجة. وتضع هذه البيوض في جمام القش المزركش، وتركنه بالنملية فأحفادها كثر وستقدمها لهم مع وجبة العشاء..

بعيد غياب الشمس وقبيل هطول الظلام تنادي جدي دجاجاته لتسلم إلى النوم في القن."باتي.. باتي.. باتي" تدخل الدجاجات واحدة تلو الأخرى مثقلة بالتعب من الجهد الذي قامت به.. وتخلد إلى النوم مع صديقاتها على أوتاد متعددة تصل بين جدران القن فسرعان ما تستيقظ عند سماع أي صوت في الداخل أو خارج القن..

ويغلق باب القن بإحكام خوفاً من الجقل.. لكن في حال بقيت إحدى الدجاجات خارج القن لن يتركها الجقل تسلم من أنيابه الحادة فقد يأكلها إذا لم تر مكاناً عالياً ترقد به كأغصان الأشجار العالية أو زاوية تنعزل فيها عن عيني جقل القرية..

ودرجت العادة سابقاً اقتناء الدجاجات في القرى فلا يوجد بيت يخلو منها ولا يركن منزل إلا وبجانبه قن للدجاجات..ولطالما حمل أهل القرية في جعبتهم دجاجة بلدية كهدية ثمينة لعائلات تسكن المدينة عاد غائبها أو تعافى مريضها، أو ربما لنجاح في الشهادة.. لتضعها سيدة المنزل منذ الصباح الباكر على موقد النار لتطهى مع القمحية ساعات وساعات.