منذ أعوام، آثر الأديب والباحث محمد كامل الخطيب (1948) أن يستقر في قريته "الملاجة"، تلك القرية الوادعة المعلّقة على كتف الطريق بين الدريكيش وطرطوس، أو كما يُحب أن يسميها: "القرية الإنسانية". هناك، على قطعة أرض اشتراها وبنى فوقها منزله، يقيم بعد أن باع بيته الدمشقي، حيث عاش معظم سنوات عمره التي شغلها في الثقافة والتنوير، وشهد من خلالها منابرها الكبرى، ولاسيما في وزارة الثقافة. وعلى امتداد تلك العقود، لم يتوقف عن الكتابة والإبداع في القصة والرواية والدراسات الفكرية، إلا في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة، قبل أن يعود ليطلّ بعمله الأحدث "بورتريهات".
بورتريهات
ابن "الملاجة"، التي أنجبت أسماء لامعة في الأدب والفن مثل محمد عمران، أحمد علي حسن، أياس حسن، علم الدين عبد اللطيف، رولا حسن، رشا عمران، أحمد كامل الخطيب، مأمون الخطيب، وعلي سليمان، وغيرهم، حمل إجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، وظلّ مولعاً بالفلسفة والفنون والآداب العالمية.
أصدر أول كتبه عام 1974 بعنوان "الأزمنة الحديثة"، ومنذ ذلك الحين دأب على نشر عمل أو اثنين كل عام، حتى توقف عام 2011، ليعود بعدها إلى الساحة بكتابه "بورتريهات". يقول الأديب خطيب بدلة إن الخطيب كتبه مسحوراً بتجربة نجيب محفوظ في "المرايا"، وبتأثر ببلوتارك في "سير العظماء"، وبإعجابٍ واضح بأبي حيّان التوحيدي والجاحظ، كما أن ترتيب الكتاب وأفكاره الكثيفة تجعله قريباً من أسلوب رسول حمزاتوف في "بلدي".
أما الروائي فواز حداد فيرى أن من يظن أن الخطيب قد اعتزل وانقطع في قريته، فهو محقّ جزئياً؛ لكنه، رغم ابتعاده عن ضجيج المدن، لم يبتعد عن هموم الناس ولا عن أسئلة العصر. ما يزال يكتب عن قضايا حسّاسة تمسّ سوريا والعالم العربي، بل وتمتد إلى ما هو إنساني أرحب.
في "بورتريهات" الصادر في بيروت (2022)، يكشف الخطيب، كما يصف الناقد أنور محمد، عن الجوهر الأخلاقي للإنسان السوري، وعن المآسي التي عاشها في العقود الخمسة الأخيرة، حين أهدر عقله بيديه أكثر مما فعل به أعداؤه. قصصه هنا ليست مجرد حكايات، بل مرايا تعكس القوة العمياء التي تحرّك الناس وتصنع شقاءهم، حتى ليبدو الإنسان وكأنه وُلد في الألم.
البداية مع القصة
بدأ الخطيب مشواره في الجامعة ككاتب يساري الهوى، انجذب منذ وقت مبكر إلى القصة القصيرة، لكنه لم يحصر نفسه في جنس أدبي واحد، بل تنقّل بين النقد والسياسة والرواية والدراسات الفكرية، واهتم بتراث النهضة العربية، محرراً ومقدماً لأعمال عبد الرحمن الشهبندر وشبلي شميل وغيرهما. ومع ذلك، لم يكن انتقاله بين هذه الحقول انصرافاً من واحد إلى آخر، بل كان حضوره متشعّباً ومتوازياً. ورغم هذا الاتساع، ظلّ في أعماقه قاصاً مديناً لتشيخوف، وباحثاً في فكر النهضة، متأملاً زماننا الممتد منذ منتصف القرن العشرين حتى بدايات القرن الحالي، بعمق يزاوج بين التاريخ والفلسفة والسياسة والتراث.
يوميات هذه الأيام
يرى الخطيب الأحداث الكبرى بعين الشعوب البسيطة: الأفراد الذين لا يطلبون أكثر من حياة آمنة، يعملون، يربّون أبناءهم، يقضون عطلهم مع العائلة والأصدقاء، يذهبون إلى السينما والمعابد والآثار والمسابح والغابات، دون أن تترصدهم السيوف أو الرصاص. من هنا تنزف كتاباته ألماً، حتى وإن بدت أحياناً باردة أو ساخرة أو محايدة.
في إحدى يومياته بعنوان "تسلّوا فإن الطريق طويل"، يستحضر قول القاضي أبي حفص بن عمر (توفي 604 هـ): "إياكم والقدماء وما أحدثوا، فإنهم عن عقولهم حدثوا...". ثم يقارن هذا التحذير من الأخذ عن القدماء بكلام أناتول فرانس: "إذا أردتُ فكرة جديدة، فتحت كتاباً قديماً". ويغوص الخطيب في مفارقات الفكر، مستعيداً مغالطات السفسطائيين، ليحوّل المفارقة إلى رياضة ذهنية، وإلى نوع من اللعب الضروري في زمن قاسٍ، علّنا نتسلى ونتعزى ونحن نسير في طريق العذاب الطويل.
الجوهر الأخلاقي
تظهر شخصيات الخطيب في قصصه بوجوه بهلوانية؛ فهي وإن جلست على مقاعد المسؤولية، لا تحمل إحساساً بآلام الناس، بل تمارس الرياء والفخامة الزائفة. بعد أن مثلوا أدوار المدافعين عن "الخير"، تسقط أقنعتهم لتتكشف عن مسوخ مثيرة للضحك المر، الضحك الذي يفصل الضاحك عن موضوعه. لهذا يلجأ الخطيب إلى الرمز والتلميح، ليمنح نصوصه عمقاً يدعو إلى التفكير لا إلى الشماتة. وكما يشير في مقدمة كتابه، فإن وجوه "بورتريهاته" المائية لا تخطئ التعرف إليهم، خصوصاً لمن يعرف الوسط الثقافي السوري.
من طينة الكبار
يقول الروائي فواز حداد: لو قارنّا محمد كامل الخطيب بغيره من المثقفين، لظلمناه؛ إذ هو من طينة نادرة، أشبه بأنطون مقدسي وصادق جلال العظم، وكان على وفاق معهما، وندّاً لهما في الحوار، لم يبدّل قناعاته، ولم يناقض أفعاله أقواله، وهي خصلة يندر أن نجدها بين المثقفين. منذ وقت مبكر أدرك الخلل العميق في الواقع السوري، وحذّر من نتائجه الكارثية، ولعل ما يمثله الخطيب من نزاهة فكرية وثقافة متينة، يجعلنا نتمسّك بالأمل في أن الثقافة السورية ما زالت قادرة على أن تنير الطريق.