طقوس وعادات متوارثة ارتبطت بشكل وثيق بشهر رمضان الكريم، وخاصة في الحارات القديمة وأحد أبرز تلك المظاهر المحببة المسحر أو المسحراتي الذي يجوب شوارع وأحياء "دمشق" مرتدياً زيه الشامي القديم، ويصدح فجراً بصوته، مترافقاً مع طبلته وضربات عصاه الخشبية على أبواب المنازل القديمة، منادياً بأسماء أصحابها للنهوض لتناول وجبة السحور.
تقليد قديم متوارث
حجز محمود صوان أبو الهيجاء مكاناً في ليالي وذاكرة أهالي حي القيمرية منذ سنوات طوال، فهم لا يعرفون سواه مسحراً خلال شهر رمضان المبارك، يتحدث أبو الهجاء عن سعادته بعملهم قائلاً: لم تستطع قسوة الأيام وظروف الحرب أن توقف عملي وتجوالي خلال شهر الخير بين أزقة القيمرية وشوارعها القديمة، فمهمتي تبدأ الساعة الثانية ليلاً حاملاً طبلتي الصغيرة، ومردداً عباراتي المألوفة للناس "يا نايم وحد الدايم، يا نايم وحد الله، يا نايم قوم لسحورك”، وتنتهي مع قرب آذان الفجر والإمساك عن الطعام.
ويتابع أبو الهيجاء حديثه مؤكداً أنه لا يتقاضى أجراً عن عمله، وفي الليلة الأخيرة من شهر رمضان الفضيل أو في يوم العيد، يقدم أهالي الحي لي «العيدية» كل شخص حسب استطاعته وقدرته.
تتحدث السيدة أمل عمر الناشطة المجتمعية 60 عاماً عن أهمية الطقوس الرمضانية التي تضفي طابعاً روحانياً على الشهر المبارك، وأبرزها دور المسحراتي بلباسه التقليدي الشامي المتمثل بقميص محاك بخيوط الحرير على النول اليدوي وبنطال فضفاض (شروال) وحذاء (كسرية عربية)، ويلف شالاً أعجمياً أبيض على كتفه، وآخر على خصره ويرتدي قبعة بيضاء مصنوعة من الحرير، إضافة إلى طبلة يحملها بيده و تعتبر أصغر حجماً من الطبول العادية التي تستخدم في المناسبات التقليدية، ومصنوعة غالباً من جلد الماعز وعصاه مصنوعة من الخيزران.
وتتابع حديثها قائلة: كانت حارات دمشق القديمة معتادة على ظهور المسحر، وغالباً ما يكون من أبناء الحي، وله صفات واشتراطات محددة، ويمكن أن يكون متوارثاً في العائلة الواحدة، وكان مروره ينشر الفرح في الأزقة ولا سيما عند طرقه على أبواب البيوت بعصاه، وخاصة عند الأطفال.
وتوضح عمر أنه تغيب حالياً هذه الظاهرة في الأحياء الجديدة، وخاصة مع وجود وسائل حديثة لإيقاظ الناس، كالمنبهات والهواتف الذكية، إلا أنها لم تلغ الدور المهم لمسحر رمضان بشكل كامل، حيث عاد للظهور في بعضها.
جانب روحاني وإنساني
وأشار أبو الهيجاء خلال حديثه إلى أن عمل المسحر يشمل الجانب الروحاني والإنساني عبر مساعدة العائلات المحتاجة، بما يقدمه أهالي الحي الميسورين من الحلوى والأطعمة الرمضانية المختلفة، فعملي ليس فقط لإيقاظ الناس كل ليلة طوال شهر رمضان المبارك لذكر الله وتناول وجبة السحور، بل أيضا هو عمل انساني بإعطاء العائلات الفقيرة ما يضعونه أهالي الحي في سلتي.
وتضيف السيدة أمل عمر: إن الجانب الإنساني الآخر هو ما كان يسمى بسلة رمضان التي يحملها المسحر، ويتجول فيها في الحي قبل آذان المغرب، يجمع فيها ما يقدمه أهل الحي من طعام وحلوى؛ ليوزعها على أهالي الحي الفقراء، وأذكر فرحة الأطفال الكبيرة عندما ياتي المسحراتي ليعطيهم نصيبهم من الحلوى والسكاكر الملونة التي جمعها في سلته، وكانوا يمشون معه بضع خطوات يرددون الابتهالات والأناشيد التي يرددها.
يقول "ياسر الدانا "من أبناء دمشق : « المسحراتي مهنة قديمة جداً كبرنا وما زال مسحر "رمضان" يضفي على ليله طقساً محبباً، مرتبطاً بشهر الخير، وفي حينا القديم "العمارة" كانت المهنة متوارثة أباً عن جد، ويتميز صاحبها بلباس تقليدي.
ويتابع حديثه بعد انتقالنا إلى حي الحلبوني غاب المسحر عن أجواء رمضان، وحاليا أعيش في حي كفر سوسة، وعاد المسحراتي إلى ليالي رمضان مع مساعد له، ولكن بدون اللباس التقليدي الخاص به. وأشار الدانا إلى أن مهن المسحراتي لها شروطها أما الآن فهناك بعض الأشخاص يجوبون الأحياء ويقرعون على أدوات معدنية بحثاً عن إكرامية آخر الشهر فقط.
تقول الصحفية جيما إبراهيم من وكالة سانا: قمت بإعداد عدة تقارير عن طقوس شهر رمضان وخلال لقائي مع بعض الأشخاص، ومنهم مسحر في حي دمشقي قديم أكد لي أن مهمته ليس فقط إيقاظ الناس كل ليلة طوال شهر رمضان المبارك، بل يقوم أيضاً بتوزيع بعض المساعدات التي تقدم له من أسر الحي الميسورة إلى الأسر الفقيرة، حيث تمتلئ سلته كل ليلة بالأطعمة والحلوى وغيرها.
وتضيف إبراهيم في حديثها لمدونة وطن: إن عدداً كبيراً من الذين التقتهم أشاروا إلى أنه رغم تطور وسائل الاتصال، ووجود المنبهات على عدة أجهزة حديثة، إلا أن صوت المسحر برمضان له نكهة خاصة تحمل ذكريات وأجواء روحانية متميزة، وهو لا يتعلق بإيقاظنا فقط في السحور، ومن الجميل استمرار عمل المسحر في رمضان؛ لأنه من التراث السوري الأصيل ويجب المحافظة على استمرارية كل الطقوس الروحانية المرتبطة بالشهر الفضيل.
وتختم حديثها: رأيت الفرح في عيون الأطفال وهم يأخذون الحلوى من المسحر وبعضهم كان يشاركه القرع على طبلته وتكرار العبارات.