يكفي الدكتور عبدو زغبور ترجمته لرواية الأديب الإسباني "ألبرتوباثكث – فيكيروا بجزأيها (الطوارق، وعيون الطوارق)، لتضعه في الصّف الأول بين المترجمين السوريين، الذين أثبت الكثير منهم أنّ الترجمة العالية لا تقلُّ إبداعاً عن إبداع التأليف نفسه، وذلك عندما يُقدّم المترجم العمل الإبداعي إلى اللغة المُترجم إليها بكامل روحه، وهو ما أشارَ إليه "فيكيروا" نفسه، وهو يُشيد بترجمة هذه الرواية – طوارق - التي تمسك بتلابيب القارئ، ولن تتركه حتى يُنهي قراءة الصفحة الأخيرة منها.. يقول "ألبرتوباثكث – فيكيروا": لستُ قادراً للأسف على قراءتها في هذه اللغة -العربية- لكن جميع من قرأها أكد لي أنّ ترجمة عبدو زغبور لها هي ترجمة لامعة، وتُحافظ من البداية إلى النهاية على التوتر الروائي فيها.."، هذه الرواية التي يقول عنها الروائي السوري الراحل حيدر حيدر: "من الصعب أن تقرأ رواية "ألبرتوباثكث- فيكيروا" دون أن تُصاب بالدهشة والمتعة معاً، فرواية "طوارق" رواية غرائبية، يمتزجُ فيها السحر واللامعقول مع حرارة الواقع، نحن هنا داخل عمل، نعبرُ مغامرة تضعنا بين ظلال الخيال، واحتمالات اليقين في مجرى الأحداث على امتداد الصحراء المغربية –الإفريقية.."
كائن بين اللغات
غير أنّ عبدو زغبور لم يكتفِ بترجمة هذه الرواية الرائعة عن الإسبانية، كما لم تكن الإسبانية هي اللغة الوحيدة التي قام بالترجمة منها إلى العربية، ونقل إلى الأخيرة الكثير من الجواهر الشعرية في أمريكا اللاتينية، بل إن زغبور ترجم الكثير من الأعمال الإبداعية عن اللغة الألمانية، واليوم في رصيده من الترجمة إلى العربية عن هاتين اللغتين عشرات الأعمال بين الرواية والشعر والفلسفة والدراسات. نذكر من ترجماته عن الألمانية: "أغاني الغجر وطبائع وأمثال من اليابان وغيرها.."، أما عن الإسبانية والتي كان لها النصيب الأكبر فترجم: (أبنوس) – البرتوباثكث – فيكيروا، وللكاتب نفسه أيضاً (من أجل مليون دولار) وجميعها روايات إلى جوار رواية (طوارق) بجزأيها، كما ترجم للشاعر "ألبرتو هيرناندث" مجموعته الشعرية اللافتة (بهائم السطح)، إضافةً لعشرات المجموعات الشعرية عن هذه اللغة التي كانت – على ما يبدو – الأحب إلى نفسه، ومنها: "وليمة الفعل أحب لرودولفو روديغيز وارتقاء النيران والأسباع لمغالي سلازار سنابريا وأوراق النهر لفيديل فلوريس وشعر تجريبي لخوسيه تابلاد وغيرها الكثير، إضافةً لمختارته من الشعر الفنزويلي.
ورغم كل هذه "الثروة" الإبداعية من الترجمة إلى العربية من اللغتين الألمانية والإسبانية فقد كان لعبدو زغبور أيضاً تجربته الشعرية المميزة، والتي لم يكتفِ لصياغتها باللغة العربية فقط، بل كانت الإسبانية أيضاً مجالاً رحباً لمجازاتها، وهو عضو اتحاد الكتّاب والشعراء الفنزويليين منذ سنوات عديدة ويحمل أيضاً الجنسية الفنزويلية، حيث يعيش أيامه بين البلدين سورية وفنزويلا.
وكان له في الشعر: مطر القلب – دمشق 2011، صخب الكلمات - فنزويلا 1995، والظل والظهيرة – فنزويلا 2007، والمجموعتان الأخيرتان شعر بالإسبانية، كما صدرت له مجموعته الرائعة بالعربية (إنطولوجيا شخصية – الظل والظهيرة) عن دار التكوين بدمشق.
الظل والظهيرة
وهذه المرة يُقدم د.زغبور إنطولوجيته الشخصية بطريقة أقرب ل"الأعمال الكاملة"، فالمجموعة وإن جاء أغلبها شعراً، غير أن الكثير من نصوصها ذهبت إلى غير الشعر كالقصة القصيرة بأشكالها، وحتى إلى اليوميات.. وحتى في النص الواحد من نصوص هذه المجموعة التي ألحق بعنوانها الرئيس عنواناً فرعياً هو (الظل والظهيرة) وهو عنوان إحدى مجموعاته الشعرية التي كتبها باللغة الإسبانية، فقد يجد المتلقي في نص زغبور: القصيدة والقصة، والحكمة، ويمزج أحياناً بين كلّ تلك الاتجاهات..
"هكذا يجيء النهار !
يعتلي الصبحُ السماء،
فتكتشفُ الشمس
عن عورتها
الحارقة للملاء."
هذه الصياغة الشعرية التي يستفيض بالحديث عنها الناقد الفنزويلي "تشيفيهي كوايكي" فيذكر أنّ: شعر عبدو زغبور مجبول بهذا الخراب الذي يحصل عليه كلٌّ منّا دون أن يطلبه، ودون أن يتمناه، إنه الإدراك الأول في الإطلالة الأولى، في الشّك الأول، وهذا ما هو معقول وعادي.. فقد جئنا مُكبيلين بمرارة إلى هذا الواقع الكابوسي أو إلى هذه "الإمكانية" التي هي الحياة.. الحب نفسه، الطفولة نفسها وحتى معتقداتنا تُشكل جزءاً من مُفارقاتنا لدرجة نشعر أنه لا شيء أكثر تلقائية من أن "نذهب سُدى كالوقت"..
"انطلقتُ
بعد "مئة عامٍ من العزلة"،
مع "دون كيخوت"؛
على فرسٍ ضامر؛
أجوبُ المقابر،
أقاتلُ "النفوس الميتة".
في الشكل؛ لا يملُّ عبدو زغبور التنويع أيضاً - كما يقول - وأن يُقدم القصيدة بأقصى ما يُمكن أن يوفره له قصارى القول الشعري، وهو يُكثر من الوميض الشعري، بمعنى قد تحتوي الصفحة على ومضة شعرية لا تتجاوز العشر كلمات، وقد يذهب للمتواليات الشعرية، بتلك الومضات التي تأتي تباعاً وقد تكون مرقمة، إذ بإمكان القارئ أن يقرأها فرادى، أو يقرأها مجتمعةً ودفعة واحدة، وقد يأتي بالقصيدة – الحكاية التي تمتد على مدى صفحة أو صفحتين.
على قلقٍ
عن هذه التجربة الغنية للدكتور عبدو زغبور أختم بهذه الشهادة للشاعر والناقد منذر حسن، الذي يقول عنها: " على قلقٍ كأنّ الريح تحتي، هذه ليست عنوان إقامة لمن يقول "وحيثما أكون أشتاقُ إلى حيثُ كنت".. ويُضيف: الشاعر والمترجم الدكتور عبدو زغبور رفيق الغربة والشعر، صاغتهُ الحياة ابناً لثلاث لغات، وصاغته الثقافة. وأستعير شهادة الشاعر الفنزويلي غابرييل خمينث إيمان "شاعراً عميقاً متفرّداً".. عن هذا الثالوث اللغوي، عن شعرية عبدو زغبور وارتحالاته بعد ألمانيا بين عالمين..العربي والإسباني.. سأبتعد عن ذلك القلق الوجودي للشاعر، وعن قصائده باللغات الثلاث، لأسرد قليلا عنه كمترجم وكمثقّف مُنح الجائزة العالمية "سيمون بوليفار" وكُرّم في فنزويلا وحتّى من قبل وزارة الثقافة السورية.
ترجم الدكتور عبدو زغبور خمسة كتب عن الألمانية وسبع روايات عن الإسبانية وثمانية دواوين من الشعر الفنزويلي ومجموعة قصصية لاوغستو مونتيروسو وكتابين للشاعر المكسيكي خوسيه تابلادا وإنطولوجيا الشعر الفنزويلي في القرن العشرين. هذا عدا عمّا نشره من شعره بلغات تلك البلدان، وثمة أعمال أخرى لم يتسنّ لي الإطلاع عليها.
تجربة واسعة وعميقة الدلالة أفسحت المجال لرودلفو رودريغيز ليقول عن تجربته وعنه:
"يبدو كأنه ينغلق وينفتح على نفسه حول مجموعة من المعاني المنشطرة إلى جزأين... شعرية زغبور تقترب من حصار مبرمج غرضه الأساسي هو التهكم، الشاعر هنا يعمل من اليومي والمألوف ما يسهم بفكرة الخلق، هذا السم الحلو للسخرية الحادة".
أختم هذا المحور بقول للدكتور عبدو: لكي تكتب بلغة أخرى، عليك أن تعيش داخلها وتكوّن تجربتك وذاكرتك بها، وتنسى اللغات الأخرى مؤقتاً.
ليت المجال يتسع أكثر للكتابة عن الدكتور عبدو زغبور شاعراً ومترجماً وأديباً، لذلك سأختم البحث الوجيز بما لفتني من بعض أجوبته، كقوله: أنا من يختار العناوين، لا أستطيع ترجمة ما لا أرغب.. ما يهمني هو القيمة الفنية والجمالية، لم أندم على أي كتاب ترجمتُه.. أجوبة تعطيك انطباعاً جميلاً عن الإبداع، عن القلم النظيف، عن المصداقية مع النفس ومع الآخر.. والأهم مع المادة الإبداعية وهو ما نتمناه للثقافة العربية وللترجمة، مع مرارة الاعتراف بأن المؤسسات لدينا ومن وراءها الجهة التي تقف أمام أي نهضة ثقافية.. هذا على الأعم الأغلب.. هنا حيث لا شيء أمامنا إلّا الفراغ، الأوراق البيضاء.. في لعبةٍ لا تنتهي.
" زرعتُ في كفي وروداً
مُنتظراً مواسم الأمطار،
كي أمدها في العراء
علّها تُزهرُ في خريف الروح !"