على طول الساحل السوري تتوزع مئات الهوات والكهوف التي تعد بمثابة وثيقة تثبت احتضان تلك المنطقة للحضارات البشرية المختلفة لعصور ما قبل التاريخ، عبر تضاريسها وتكويناتها التي مازالت حيّة وشاهدة على ذلك.
هوات ضائعة
يشير الباحث في المجال البيئي والتوثيق العلمي "إياد السليم"، وهو من الدؤوبين على اكتشاف المغاور والهوات المجهولة، وقد اكتشف أكثر من 140 مغارة، إلى بعض المغارات المكتشفة في منطقة صافيتا وجوارها كهوّة "بيت صلوح"، التي تقع ما بين صافيتا والدريكيش، وتقع الهوّة على امتدادين أفقيين بكلا الاتجاهين، بطول 15 م تضيق عند نهايتهما بفوهة 3×3م، ويقدر عمقها 6 أمتار تقريباً قبل أن تملأها الردميات الصخرية التي سببتها الآليات لقربها من الطريق الترابي، بإمتداد بئري عمودي، وبكل أسف أنه بردم بسيط إضافي ستغلق هذه الهوّة وتضيع، ليكون هذا التجاوز بمثابة إنذار على ضرورة إنقاذ الهوّات قبل فوات الأوان.
ويضيف "السليم" في حديثه للمدونة: إن مغارات "مشرفة كحلة" التي تقع ما بين صافيتا والدريكيش، هي عبارة عن كهوف صخرية متجاورة ومتقابلة على ضفة مجرى نهري قادم من مدينة الدريكيش، وقد تحول للأسف إلى مجرى للصرف الصحي صيفاً، هذه الكهوف (أجواق) ليس لها امتدادات، وإنما تجويفات، سكن هذه الكهوف إنسان ما قبل التاريخ، بعد غربلة تربتها لتوثيق أدواتها الحجرية.
ويتابع بالقول: "لم يكن مقصدنا هذه الكهوف، بل كانت (هوّة مشرفة كحلة) وللأسف صعّب علينا الأمر بسبب ردم فوهتها بالصخور، ولتوثيقها يتوجب تعزيل بعضها لإمكانية النزول فيها" .
مركز الهوّات
يشير "السليم" إلى غزارة انتشار الهوات والمغاور في قرى طرطوس التي تضاهي العالم بعددها، يذكر منها "هوة الجدار الفينيقي"، إذ يعتقد الباحث أن فوهتها قد أغلقت بجدار من صخور كبيرة ومستطيلة وبإسمنت كلسي، منذ آلاف السنين من الفينيقيين، للحماية من السقوط من جهة، ولصعوبة النزول إليها من جهة أخرى، وتركوا فجوة صغيرة جدا، ما ألزم الفريق بإزالة الحجر المستطيلي الكبير.
ويشير إلى تعرض بعض التشكيلات السفلى إلى الأذى بسبب رمي الحجارة فيها، أما الصالة السفلى فهي بكر ورائعة الجمال، تنتهي الهوة بدهليز ضيق يمكن توسيعه وقد يكون لها امتداد بعده.
ويتابع السليم: "هناك هوة "الباب الضيق" وجاءت التسمية من ضيق الفوهة التي لا تتسع للجسد البشري، فقاموا بتوسيع المدخل، وتبدو التشكيلات بداخلها سليمة، وهي كثيفة رغم صغر مساحتها، يقدر عمرها 40 ألف عام، بينما تحتوي "هوة الفك" على عدة تشكيلات صخرية تشبه فك الأسنان (من هنا جاءت التسمية)، صغيرة الحجم، ومن السهل النزول إليها، وكما يبدو "للسليم" أن أحدهم نزلها منذ 80 عاماً، وتعد تشكيلاتها الصخرية قليلة وحديثة العمر وتقدر بحوالي 20 ألف عام، والملفت هو كثافة المغاور وتجاورها في تلك المنطقة، ما يتيح لها تحطيم الأرقام القياسية العالمية .
ويضيف السليم في حديثه: إن الأهم في هذا السياق "هوة الفينيقيين" التي نزلها الفينيقيون قبلنا بـ 3000 عام، وتتميز بفوهتها وبهوها الداخلي الواسعين، وتبدو من الخارج عميقة ومخيفة، سهلّت الحديجات (الدرْجات) على الفينيقيين النزول إليها واستعمالها، وحافظوا على تشكيلاتها من دون تكسير ما يؤكد على تمدن هذه الشعوب، ويبدو أنه لم يتجرأ إنسان على النزول إليها بعدهم، تتألف الهوة من حديجات بعمق 6 أمتار، تليها فوهة الهوة التي تبدو كالبئر، حيث تصل القاع على عمق 12 م، يمتد تحت الأرض ليشكل قاعة بقطر 50 م .
"هوة الهوات"
في حديثه عن "هوة الهوات" يقول "السليم": إنها مغارة عمودية بئرية (هوة) عمرها الزمني 400 ألف عام، وبعد النزول إليها عمودياً لمسافة 25 متراً تأتي الصالة الأولى الواسعة، تليها باتجاه الأسفل هوة أخرى، ثم أخرى على عمق 150 م، ومن هنا جاءت التسمية "هوة الهوات"، وهي أعمق من ذلك، تحتوي على نوازل وصواعد عليها حبيبات صخرية بكر، تتشكل بسبب رذاذ الشلال المباشر، وعلى الجانب الآخر بلّورية شفافة، وتضمنت الهوة الأخرى على بِركة مليئة ببحص كبير مصقول، ارتفاع سقفها 70 م تقريباً، وتمتلك الهوة كافة المقومات لاستثمارها سياحياً .
أما "هوة المجدل" فتقع - حسب ما يوضح الباحث - على سفح أفقي في قرية تحمل نفس الاسم بريف طرطوس، وتنزل مسافة 6 م نحو فتحتيها المتصلتين بواسطة شق تحت الأرض، بعمق 8 م، ترى في القاع عظام الحيوانات معظمها ماعز نافق، ويرجح "السليم" أنها هوية عميقة جداً، إلا أن رمي الحجارة والصخور فيها، قد أغلقتها عند هذا العمق.
ثروة وطنية
يقول رئيس بلدية منطقة الشيخ بدر "محمد العلي" لمدونة وطن: إن المنطقة اشتهرت بكثرة المغاور والهويات، وتعتبر مغارة "جوعيت" أشهرها، وتتبع لمديرية السياحة في طرطوس، ويؤكد على تعامل المجتمع الأهلي بحرص مع المغاور لمدى أهميتها، وقد قام مجلس مدينة الشيخ بدر منذ زمن بتركيب قفل حديدي على باب المغارة لحمايتها والحفاظ على نظافتها وحرصاً على سلامة المواطنين، ولاحتوائها على مجرى مائي، ويتم إغلاق أي هوة أو فوهة فور العلم بها للأسباب التي تم ذكرها، وبرأيه أن انتشار المغاور في المنطقة مؤشر على التواجد البشري القديم فيها، ودليل سياحي مبشر في المستقبل .
في نفس السياق يشير المزارع "شفيق يعقوب" من صافيتا إلى انتشار المغاور في أراضي الساحل الزراعية، التي تبنى على بعضها الغرف الزراعية المجاورة للمغاور، ما يسبب ردم الفوهات، أو تردم بسبب جهل المزارع بالقانون وخوفه من استملاك العقار، ناهيك عن الخطر المحيط بدخول الأطفال والمراهقين إليها، ويستذكر "يعقوب" حديث أجداده وحكاياتهم، حيث إن بعضها كان مخبأ للوطنيين الأحرار في حقبة الاحتلال العثماني ثم الفرنسي لسورية، ويأمل يإقامة ندوات تثقيفية للإضاءة على هذا الشأن من الجهة القانونية و للتوعية العامة للحفاظ على هذه الثروة التي يتجاوز عمرها ملايين السنين .