ظلت حرفة الضغط على النحاس وقتاً طويلاً حكراً على الرجال لما تحتاجه من جهد عضلي، غير أن هذه القاعدة تغيرت بعد أن اقتحم الحرفة عدد من النساء اللاتي أبدعن فيها وأثبتن علو كعبهن، ومن هؤلاء الفنانة التشكيلية "ياسمين حسامو" التي عملت في هذا المجال بحرفية عالية ومهارة فنية ملفتة.

تطويع النحاس

اختارت "حسامو" حرفة تشكيل النحاس رغم معرفتها بصعوبة المهنة، وهي الحائزة  شهادة خبير في الحرف التراثية بالضغط على النحاس من الاتحاد الأوروبي.

وحول اختيارها لهذه الحرفة تقول: "اخترت النحاس دون غيره من المعادن لعراقته التاريخية، وبثّه للطاقة الإيجابية أثناء عرضه في المنزل، أو على شكل حلي نسائية، ورغم صعوبة مراحله بدءاً من التنظيف والتلميع والعزل، فضلاً عن إمكانية تعرض العامل فيه لخطر المواد الضارة، إلا أنه وأثناء العمل تنطاع الصفيحة مع سلاسة الإزميل فتعطي الشكل المطلوب بألوان متعددة كالبني والأحمر والبنفسجي ويصل لدرجات الأسود عند تعتيقه".

من أعمالها

بدأت "حسامو" مشوارها الفني مع الرسم، وتنامت موهبتها لتشترك لاحقاً بعدة معارض للرسم الزيتي، كمشاركتها بالمعرض الافتراضي في جامعة تشرين، وورشة العمل التي حصلت من خلالها على شهادة خبير موّقعة من الاتحاد الأوروبي و"ايراسموس"، وقد عبّرت "لمدونة وطن" عن مدى إعجابها بالاندماج الحاصل بين الرسم أثناء ضغطه على النحاس، والنتيجة الرائعة للشكل النهائي.

وترى الفنانة أن اليد التي اعتادت التعامل مع ريشة الرسم برقتها ورهافتها، قادرة على التعامل مع مواد أخرى صلبة، "دوماً عندما يجتمع اللين والرقة مع القوة والصلابة تكون التفاصيل متقنة ومنسجمة في النقوش، ويتحول العمل الحرفي إلى فن إبداعي"، مشيرة إلى أنها تحصل على النحاس من سوق النحّاسين في دمشق، وتشتري تتمة المواد من منطقتها في صافيتا أو طرطوس.

منذر رمضان عضو اتحاد حرفيي طرطوس

"عبق" النحاس

نحاسيات عبق

جسدت "حسامو" في أعمالها وجه وجسد المرأة، لأنها عندما ترسم المرأة فإنها ترسم المجتمع بأكمله كما تقول: "هي أيقونة الحب والعطاء والجمال والأمومة، فكل جميل من وجهة نظري هو امرأة، وأحاول دوماً خلق بصمة فنية جديدة في العمل من خلال إضافة النحاس للديكور المنزلي، وقد بدأت بالفعل بدمج الخشب مع النحاس الذي أعطى أجمل النتائج".

أطلقت "حسامو" اسم "عبق" على مشروعها النحاسي الذي بدأ بلوحات ثم تحف صغيرة وتذكارات ثم إلى بورتريه، وأدخلت النحاس على المفروشات المكتبية والمكاتب النحاسية الخشبية والأبواب وغيرها، وهي تتعاون مع نجّار في مرحلة إدخال النحاس للخشب.

وتشير الفنانة إلى نجاح المشروع الذي تجاوز صداه محافظة طرطوس وصولاً إلى بعض الدول العربية والأجنبية، بواسطة أشخاص مقيمين في الخارج اقتنوا أعمالها، تأكيداً على جمال العمل اليدوي الحرفي الذي لا يندثر، ما يعكس صورة إيجابية لبلادنا في الخارج، بالإضافة إلى اعتمادها على "السوشيال ميديا" في التسويق.

وترى "حسامو" أن نجاحها في عمل الضغط على النحاس مرتبط بحبها لهذه الأرض التي ترتبط بالحرف التراثية القديمة، والتي تعكس صورة "سورية" في الخارج، وتأمل أن يتم تأمين التسويق المناسب للخارج دعماً لصورة الشعب السوري المبدع والذي أبهر المجتمعات بالحرف القديمة التي تفوقت على الآلات، لكنها بحاجة للإضاءة.

رؤية فنية

في نفس السياق يتحدث الأستاذ "منذر رمضان" عضو اتحاد الحرفيين في طرطوس عن تاريخ حرفة ضغط النحاس الذي ابتدأ حسب كلامه، منذ الألف الثانية قبل الميلاد، حيث أبدع حرفيو بلاد الشام بتحويل مادة النحاس إلى أطباق وأواني وزخارف ولوحات فنية، وفي بداية الحضارة العربية بدأ الحرفيون بإضافة فن آخر تمت تسميته بفن الضغط على النحاس الذي  يكون نافراً وبأبعادٍ مختلفة.

ويتابع "رمضان" حديثه مع "مدونة وطن" بالقول: "هناك إقبال على تعلّم هذه الحرفة من كافة الأعمار، وحتى السيدات والفتيات والأطفال في الساحل السوري أتقنوا هذا الفن، كالسيدة "ياسمين حسامو" التي أثبتت بأنها تمتلك رؤية فنية وصبراً وصلابة لتنقل ما يجول بفكرها من فن وإبداع إلى لوحات تخاطب الأحاسيس، ولم تتوقف بفنها على مادة النحاس، بل أضافت على عدد من لوحاتها حجر الكريستال برؤية إبداعية أنثوية تفوقت فيها على زملائها الرجال، ومساهمتها في تطوير هذا الفن بإدخاله في الأثاث".

في بداية الأمر تفاجأ الجميع من عملها في حرفة يحتكرها الرجال، لكنها شرحت ماهية هذا العمل الذي لا يستوجب القوة القصوى كما يُعتقد، لأن سماكة صفيحة النحاس ليست ثخينة، بل تحتاج إلى المرونة والصبر وثبات اليد، بالإضافة للمسة الفنية، وبعد انتشار أعمالها الملفتة لاقت التشجيع والاستحسان الكبيرين.

السيدة "عايدة" تقتني في منزلها بعض التحف النحاسية والتي تراها أجمل من أي زينة أخرى، وتفتخر بمزهرية النحاس المنقوشة التي ورثتها عن جدتها وتعرضها في إحدى أركان المنزل.

تقول السيدة: "أبحث عن النحاسيات المتميزة بشكل دائم لأضمها إلى مجموعتي".

تبقى الإشارة إلى معاناة العاملين بهذه الحرفة، كارتفاع أسعار المواد الأولية وصعوبة عملية التسويق وعدم وجود دعم وتمويل للإنتاج من الجهات المعنية.