لا يوجد تاريخٌ مُحدّد لبدء مُمارسات الطب الشرعي في سورية بما فيه من كُشوفٍ ونتائج، غير أنّ تنظيمه حديثٌ نوعاً ما إذا ما قُورن بغيره من الفروع الطبية، ففي زمنٍ سابقٍ مارس المهنة أطباء من اختصاصاتٍ مختلفة، بناء على تكليفٍ من القضاة، بسبب عدم وجود اختصاص الطب الشرعي أصلاً، لكن هذا تراجع بشكلٍ كبير مع ظهور قوانين مهّدت للدراسة، وبالتالي توافر أطباء شرعيين أخصائيين.

بداية التنظيم

بدأت ملامح التنظيم، كما يشرح الدكتور زاهر حجو مدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن"، عام 1996 عندما تشكّل المجلس العلمي لاختصاص الطب الشرعي، وبموازاته سجّلت أول دفعة من الأطباء لدراسة الاختصاص، ومع تخرج هؤلاء عام 2000 تأسست الرابطة السورية للطب الشرعي، وصولاً إلى عام 2014 حيث صدر القانون رقم 17 الناظم لعمل الطب الشرعي والقاضي بإحداث الهيئة العامة للطب الشرعي، مركزها دمشق وتتمتع بالاستقلال المالي والإداري، إلى جانب ارتباطها برئاسة مجلس الوزراء، وهو ما تغيّر لاحقاً، حين صدر المرسوم رقم 19 عام 2016، وفيه ترتبط الهيئة بوازرة الصحة.

الطبيب الشرعي

تتعدد مهمات الطبيب الشرعي، على عكس ما يظنه البعض في اقتصار عمله على جرائم القتل، يقول حجو: "من الخطأ النظر إلى الطب الشرعي على أنه طب الوفيات بل هو طب العدالة، والعدالة هي الحياة، نحن قلم العدالة الطبي ومهمتنا المعالجة الطبية للمشكلات القضائية والجنائية، حتى إن إحصائيةً أُجريت قبل الحرب أظهرت إن 92 % من مهام الطبيب الشرعي تتعلق بالأحياء مقابل 8 % بالوفيات، ومع إحداث الهيئة والاهتمام بالأرشفة والدراسات، أشارت إحصائية إلى إن نسبة التعاطي مع الأحياء 73 %، مقابل 27 % للوفيات، وفي الحرب ارتفعت نسبة الوفيات لكنها بقيت أقل من الأحياء".

المدير العام الدكتور زاهر حجو

بالنسبة للوفيات، يبحث الطبيب الشرعي في شكل الوفاة (عرضية كالسقوط من شاهق، ذاتية كالانتحار، غيرية كحوادث القتل)، إضافة إلى زمن الوفاة وسببها، أما في حالات الأحياء فالمهام كثيرة على ما يذكر "حجو" بدءاً من الحوادث المختلفة التي يُسجّل فيها ضبط شرطة، يُضاف إليها الرضوض والسموم على تباين نتائجها، كما تشمل مهامه طيفاً واسعاً من "حالات حوادث العمل، الأمراض المهنية، حوادث السير، المشكلات الجنسية، الأفعال المخلة بالآداب، تقييم المرضى العقليين، تقدير العمر، تحديد الهوية، فحص الجراح بأنواعها، تحديد المسؤولية الطبية في حالات الإهمال وسوء الممارسة في السلك الطبي".

يُشير حجو إلى أن نجاح الطبيب الشرعي يقوم على قدرته العلمية وأخلاقه، وهما أمران متلازمان، لا معنى لأحدهما من دون الآخر، بل إن فقدان أيٍّ منهما مصيبة للطبيب وللمجتمع، لأن تقديراته يُمكن أن تكون لها نتائج كارثية، كسجن إنسان بريء أو إعدامه مثلاً، يُضيف أيضاً: "الأطباء الشرعيون في سورية، على درجة عالية من المهنية والمعرفة، كنا خلال الحرب 52 طبيباً بشرياً شرعياً، و20 طبيب أسنانٍ شرعياً فقط، فحصنا مئات الحالات من الشهداء والمصابين والجرحى، واكتسبنا خبرةً قلّ نظيرها في الدول المجاورة، نحن نفتخر بأداء أطبائنا وجهودهم المبذولة رغم كل المصاعب، ورغم ضعف الإمكانيات والتجهيزات الفنية والمخبرية".

بعد الحرب

الدكتور ياسر قاسم

بعد انتهاء العمليات الأمنية، سعت الهيئة العامة للطب الشرعي لتعويض الخسائر التي أصابت 70% من منشآتها ودمرتها جزئياً أو كلياً خلال الحرب، وتبعاً لما يقوله حجو، أنشأت في حلب مركزاً من أكبر المراكز في الشرق الأوسط، كذلك في حمص والقنيطرة، إلى جانب مركز استعراف ضخم ومشرحة ومركز للأحياء في دمشق، ومركز وفيات في مشفى المجتهد، مع تواجد دائم في ريف دمشق ضمن القصر العدلي، وفي مشفى المواساة وقعت اتفاقيةً تتعلق بالوفيات، على أن تتجه العام القادم نحو حماة وطرطوس واللاذقية لتطوير المنشآت فيها، علماً أن مراكز ونقاط الطب الشرعي موجودة في كل المحافظات، أما المشكلة الأساسية بالنسبة للهيئة فهي المخابر، لذلك تستعين بمخابر الطاقة الذرية ومخابر الأدلة الجنائية في إدارة الأمن الجنائي.

مُهددٌ بالزوال

لا يجد الطب الشرعي في سورية إقبالاً من الراغبين بالتخصص فيه، لذلك فهو مُهددٌ بالزوال خلال الأعوام الـ 15 القادمة كما يُؤكد حجو، مُوضحاً: "إحجام الأطباء عن التسجيل في هذا الاختصاص يتعلق بالعامل المادي، فالطبيب الشرعي لا يحصل على جزءٍ بسيط مما يناله غيره من الأطباء، مع أنه يبذل جهوداً مُضاعفةً، ومن الصعب جداً أن يفتح عيادة طبيب عام، لأن اختصاص الطب الشرعي يرتبط في أذهان الناس بالموت، لذلك لن يقصده أي مريض. ومن جهة أخرى، هناك عوائق نفسية، لها علاقة بالتعامل مع حالات الاغتصاب والقتل، والأمراض التي تنتقل من الجثث المتفسخة.

وعوائق قانونية عديدة، فالطبيب الشرعي يعمل في حقل ألغام، ربما يكون تقريره سبباً في سجنه في حال وجود خطأٍ فيه، ولهذا نعمل على رفع الدخل المادي وتأمين حماية قانونية للطبيب الشرعي عبر تطبيق مواد القانون 17 التي لم يتم تفعيلها كما يجب".

بالطبع، قلّة عدد الأطباء الشرعيين المُمارسين حالياً، وهم 118 طبيباً من ضمنهم أطباء الأسنان الشرعيون أيضاً، انعكست على ظروف العمل في الأرياف والمدن عموماً، يقول حجو: "في المدن العمل محصور بالأخصائيين لكن في الأرياف يتم تكليف أطباء باختصاصات متنوعة بأعمال الطب الشرعي، نحاول التواصل معهم بحيث يتم تحويل الحوادث والجرائم الكبرى للأخصائيين في المراكز الرئيسية، ويقتصر عملهم على الحوادث سهلة الحل".

طب الأسنان الشرعي

رغم كثرة التخصصات الطبية عموماً، لا نجد تميزاً تخصصياً في العلوم الشرعية كما هو بالنسبة لاختصاص طب الأسنان الشرعي، والسبب يعود للصفات الفريدة التي تتميز بها الأسنان حسبما يقول الدكتور ياسر القاسم رئيس الرابطة السورية لطب الأسنان الشرعي والمعاون الطبي لمدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي، حيث بدأ هذا الاختصاص عام 2004 مع إقرار المجلس العلمي له، وهو مُتاحٌ فقط في وزارة الصحة من خلال البورد السوري، ومن ثم تخرّجت الدفعة الأولى من الأطباء عام 2008، وأعقبها تأسيس الجمعية السورية لطب الأسنان الشرعي عام 2009، والتي تحولت إلى رابطة عام 2019.

يشرح القاسم في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "المهمة الأساسية لطبيب الأسنان الشرعي تحديد هوية شخص حي أو جثة أو أشلاء، وهذا ما نسميه بالاستعراف أي إجراء مقارنة بين دليل موجود للمفقود مثل (سجلات سنية، صورة بانورامية، بصمة أصابع، حشوات، نخور، أضراس العقل، زرعة سنية) مع مثيله عند الجثة، ثم يصدر الطبيب حكماً بأن الاستعراف إيجابي أو سلبي أو حتى مُحتمل حيث أن الأدلة غير كافية للترجيح، وهو ما قام به فريق الاستعراف المُؤلّف من أطباء بشريين شرعيين وأطباء أسنان شرعيين في الكشف عن هوية ضحايا حريق مول لاميرادا قبل عام تقريباً".

يُردف القاسم: "يكتسب الاستعراف أهميةً إنسانيةً أولاً، إلى جانب دوره الكبير في القضايا المدنية والجنائية، اعتماداً على فردية الأسنان وتنوع الاختلافات في أشكالها وعلاقتها البينية وعلاقتها مع البنى المجاورة، وتنوع المعالجات فيها وأشكالها، وهي من أكثر الأنسجة صلابةً في الجسم، حتى أنها تبقى موجودة بعد الدفن وفي مختلف حالات التخرّب والحروق، ويُمكن من خلالها التمييز بين الجنسين، وتحديد الأعراق، إذ لا يوجد فكاّن متطابقان بين البشر أبداً، وهو ما يُسمى البصمة السنية؛ واحدة من الطرق الأساسية للاستعراف الأولي وفق توصيات الانتربول الدولي، والأسرع في حالات الكوارث الكبرى والنزاعات والحروب".

إضافةً إلى ما سبق، يقوم طبيب الأسنان الشرعي بتحديد العمر، وهو أمرٌ يُؤثّر كما يُؤكّد القاسم في الحكم الصادر في أي قضية، كما يبحث في أثر العض، ويُقدّم شهادة الخبرة في الأخطاء الطبية والإهمال الطبي وسوء مزاولة المهنة.

أعلام ومُؤسسون

يستعرض القاسم أسماء الأعلام من الأطباء الذين ساهموا في تنظيم وتطوير الطب الشرعي وطب الأسنان الشرعي في سورية، منهم: الدكتور "ياسر صافي علي" أول رئيس للمجلس العلمي لاختصاص الطب الشرعي عام 1996، مُقرر منهاج الطب الشرعي ويعود إليه الفضل في وضع النواة لطب الأسنان الشرعي، الدكتور "زاهر حجو" قبل أن يُصبح مديراً عاماً لهيئة الطب الشرعي، كان رئيساً للطبابة الشرعية في إدلب ثم في حلب، فحص في السنوات الأخيرة آلاف الجثث وهو جهدٌ كبيرٌ جداً.

أيضاً، الدكتور "أكرم الشعار" رئيس الطبابة الشرعية العسكرية في مشفى تشرين العسكري، الأستاذ الدكتور "حسين نوفل" أول مدير عام للهيئة العامة للطب الشرعي، حاصل على شهادة الدكتوراه، الدكتور "بسام محمد" رئيس الطبابة الشرعية في حمص سابقاً وعضو مجلس الشعب حالياً، حاصل كذلك على الدكتوراه في الطب الشرعي، الدكتور "عامر سراقبي" الأخصائي الأول في طب الأسنان الشرعي، تمكّن مع فريقٍ طبيٍّ كاملٍ من إعادة بناء وجه لحالات كثيرة خلال الحرب، كانت نتيجة الاستعراف فيها إيجابية، وغيرها من الأعمال التي تحتاج إلى خبرةٍ وكفاءةٍ عالية.