استوطن الإبداع الساحل السوري، ليحط رحاله في هذه البقعة الولاّدة للمفكرين والعلماء والأدباء، فمنهم من أصبح اسمه منارة ومرجعاً حتى بعد رحيله، ومنهم من نسيه الزمن رغم نتاجه الفكري كالشاعر "عبد الحق حداد"، و الذي ورغم نتاجه العزير فقد ظل بعيداً عن الأضواء.

كلمات

في حوار خاص مع رفيقة دربه والشاهدة على وقفاته الأدبية، تتحدث زوجة الشاعر السيدة "وديعة اسكيف" عن محطات من حياة زوجها الراحل وما تركه من إرث شعري غني.

تقول السيدة: "وُلِد الشاعر "عبد الحق حداد" في مدينة صافيتا عام 1934، درس فيها أولى مراحله الدراسية، ثم انتقل إلى دمشق لدراسة الحقوق وتخرّج منها عام 1961 مجازاً في القانون والتاريخ، عمل مدرّساً للتاريخ واللغة العربية في ثانويات دمشق الخاصة، ومديراً لبعض الثانويات، ثم موظفاً في وزارة التموين في دمشق وطرطوس، ليستقيل نهائياً منها ويعمل في المحاماة".

الأديب السوري ظافر بشور

لم يدرس "حداد" اللغة العربية ولكنه كان متمرساً بها، كما تشير زوجته، وذلك بفضل المدارس المسكوبية المتميزة التي انتشرت في صافيتا آنذاك، بالإضافة إلى مثابرته على قراءة الشعر الجاهلي، واهتمامه بنتاج الشاعرين "عمر أبو ريشة ونزار قباني"، ليصقل تلك الفطرة بالقراءات الأدبية المتنوعة، فكتب الشعر الموزون المقفّى، كما كتب قصيدة التفعيلة.

وبالرغم من نتاجه المهم والثري، تشير "اسكيف" إلا أنه لم ينل الصيت الأدبي الذي يستشرس بعض الأدباء للحصول عليه، وهو الذي كتب ثلاثة دواوين وكتابات أخرى متفرقة، حيث أصدر ملحمته الشعرية عام 1965 التي أسماها "ثلاث وثلاثون رسالة إلى السيد المسيح "، وأعقبها في عام 1966 بالملحمة الشعرية الثانية بعنوان "عندما تبكي الرمال"، كما طبع في عام 1971 ديوانه "الأنامل العشرون"، الذي ضم عشرين قصيدة كتبت ونشرت، وبعد أن عمل في وزارة التموين أصدر كتاباً بالاشتراك مع "عدنان حمش" عام 1976 أسماه "الحركات الفلاحية عبر التاريخ" وقد طبع ووزّع بشكل مقتضب، ولم يأخذ حقه كما يجب.

السيدة وديعة اسكيف

رسالة شاعر

وفضلاً عن جمالية قصائده الوجدانية الغنائية التي كتبها في نهاية خمسينيات القرن الماضي، فقد تصدى في شعره للعديد من الظواهر السلبية الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمعات العربية، كزواج الأثرياء من فتيات قاصرات يعشن معاناة العوز والفقر، إلى جانب بعض الآراء التي دفع ثمنها بالنفي إلى محافظات أخرى، ما أثر بشكل سلبي على انتشار شعره وندرة استضافته في المحافل و الصالونات الأدبية.

وتنوه زوجة الراحل إلى تقصير الجمعيات الأهلية المحلية التي استثنته من تكريماتها، فالشاعر "حداد" وحتى اللحظة الأخيرة رفعه تواضعه واعتبر نفسه حتى الرمق الأخير شاعراً رحّالاً يحب الشعر لأجل الشعر فقط وليس لأجل الشهرة.

وتختتم "اسكيف" حديثها بالإشارة إلى أصدقاء الراحل الذين كتبوا الرثاء له بعد وفاته عام 1988، لتأثرهم بفكره المتمرد في زمن متعدد الأحداث والانكسارات، ظهر في صوره الشعرية التي تخطت في تركيبتها الحواس وخرجت عن المألوف.

رفيق الصبا

صديق الراحل الأديب السوري المقيم في النمسا "ظافر بشور" تولد عام 1939 وهو الذي كتب سابقاً في جريدة البعث والثورة وتشرين، وألّف كتابين "خواطر للريح" المتواجد في مكتبات أوروبا وكتاب "همسات للذكرى" المترجم إلى اللغة الفرنسية وغيرها الكثير، يتحدث بود عن صديق صباه، معتبراً إياه من أعلام الفكر والأدب. يقول "بشور": "هو شاعر مرهف الإحساس، لديه ذخيرة لا يستهان بها من العلم والمعرفة، عرف بجرأته في إشهار مواقفه السياسية والاجتماعية التي دونها شعراً ونثراً وكان طيب المعشر، تتحول أي سهرة يرتادها إلى مهرجان شعري يجملّها بحسه الغزلي وشخصيته المحببة وفي ذكرى رحيله الأربعين، أقيم له في مدينة صافيتا احتفال جماهيري كبير حضره كوكبة من الأدباء والشعراء من لبنان وسورية، تحدثوا فيه عن مناقب الشاعر ومسيرته، كالمفكر اللبناني "منح الصلح" والأستاذ "معن بشور" المنسق لتجمع اللجان الشعبية في لبنان، وحضر من سورية الشاعر الكبير "عبد الله يورغي حلاق" والشاعر "فواز بشور".

الشاعر المنسيّ

"بشور" دعا في حديثه للمدونة من لديه رغبة في الاطلاع على نثر وشعر "حداد"، للاستعانة بمكتبة الأسد في دمشق التي تحتضن رفوفها كتابيه "ثلاث وثلاثون رسالة للسيد المسيح والأنامل العشرون"، حيث تظهر اللغة المتفردة في السرد الغزلي، والقضايا الاجتماعية وعلم الاجتماع.

ويشير صديق الراحل إلى محتوى كتابه "ثلاث وثلاثون رسالة للسيد المسيح" الذي لاقى بعض الاستهجان لنقده المباشر لبعض رجال الدين البعيدين عن حياة السيد المسيح الزاهدة المتواضعة، بينما تضمن كتابه الأنامل العشرون أجمل رسائل الغزل، حيث يبحر القارئ مع الشاعر في الصور الغزلية وغنى المفردات اللغوية التي كونت لوحة أدبية متكاملة.

كان جلياً حضور"حداد" الفقير في الصالونات الأدبية في دمشق، ولكن كانت الصداقة تجمعه مع بعضهم كصداقته الوطيدة مع الأديبة "كوليت خوري".

300 بيت

اشتهر الراحل بشعر الغزل، حيث يقول في إحدى قصائده: "جديلتها مغزل الاعصر، على منكبين من المرمر، تلوب كشلال نور تدلى من الشمس من غيمة المضمر".

كما عرف بشعر الرثاء اللاذع، وكانت النتيجة استهجاناً أدبياً واجتماعياً بحقه أبعدته عن الكثير من الفعاليات الأدبية.

تقاعد في عمر مبكر لخلافه مع وزير التموين آنذاك، ويشير صديقه "بشور" إلى الملحمة الضخمة المؤلفة من 300 بيت تقريباً كتبها حداد عن القضية الفلسطينية لكنها وللأسف قد فقدت.

اليوم وعند السؤال عن الشاعر "حداد" يلاحظ أن قلة ممن بقي على قيد الحياة من كبار السن في المنطقة يستذكر الشاعر، والقاسم المشترك فيما بينهم أنه لم يأخذ حقه رغم تمكنه من الشعر، أما أبناء الجيل الجديد فمعظمهم لم يسمع به قط.

في نفس السياق يرى المدرّس المتقاعد "خليل حنا" أن "حداد" أجاد التوصيف بلغة عربية سليمة سلسة، بعيداً عن البهرجة اللغوية، وبالتالي كل من يقرأ شعره يستسيغ القصيدة ويفهم معانيها، بعكس الكثير من الشعراء الذين يستعرضون عضلاتهم اللغوية وبالتالي يضيع القارئ في الألفاظ والمعنى، وقد تنوع فحوى شعره وأبدع في الشعر الغزلي المكتوب والارتجالي.

قصيدته "إلى طالبة" من ديوانه "الأنامل العشرون" مثال حي على ما تم ذكره

يا طفلتي لا تحسبي .. أنّي ملاكٌ أو نبيْ

أنا ترابٌ أسودٌ .. في قمقمٍ من ذهبِ

لكلّ حيٍّ مذهبٌ .. صيدُ الحِسانِ مذهبيْ

أهواكِ، لكن فرقداً .. خلف الرحيبِ الأرحب

زنبقةً بيضاء في .. أصيصِ شوكٍ ترِبِ

أهواكِ، ربّاً ساكناً .. في خيمةٍ من شُهُبِ

لكنْ على الأرض، هنا .. هواي، لا لا تطلبيْ