لا تزال رائحة النذور المقدمة قرباناً للآلهة منذ أكثر من ألفي عام، تفوح بعطرها على أبواب عشرات المعابد في منطقة جبل العرب، ولتبقى المذابح الحجرية بمنزلة الأرشيف المدون على صفحاتها البازليتية حكايات من عبر وسكن وقدم القرابين تمجيداً للرب.

لوحات حجرية

يتحدث الباحث الأثري الدكتور نشأت كيوان لمدونة وطنeSYria: لعل من جاء معابد منطقة جبل العرب زائراً ومستكشفاً بدءاً من معبد منطقة سيع شرقاً وانتهاء بمعبد عتيل شمالاً، لا يمكنه أن يختم زيارته لها قبل أن يتصفح أرشيفها الذي ما زال يحتفظ بين دفتي جدرانه البازليتية، بتلك المذابح الحجرية التي أرخت للعديد من الحقب الزمنية التي تعاقبت على المنطقة، ما جعلها حاضرة دائماً وأبداً، فعلى بلاطتها خط الاقدمون بأزاميلهم الحديدية حكايات طقوسهم الممارسة في ذلك الزمان، وبالرغم من المكانة الدينية لتلك المذابح، إلا أن من أرسى دعائمها من معماريي تلك العصور، حرصوا على تقديمها بلغتهم الهندسية والمعمارية الجميلة، ومن أهمها ذلك النقش الحجري المحتفظ به في واجهة الجدار الرئيسي لمعبد شهبا القابع جانب مسرحها الأثري، وقد زينته العديد من الزخارف والرسومات النحتية، حيث نقش على إحداها ديارة عنب مع أغصانها وفوقها جذع رجل اسمه لوقا، ويضيف كيوان: الباحث في كتب التاريخ والتراث، سيكتشف أن لوقا هو جندي مسرح من الكتيبة العاشرة للجيش الروماني، وقد قدم قربانه للرب زيوس كيريوس، طبعاً وفق النص اليوناني المترجم إلى العربية، ومن بنفض غبار السنين عن المعبد سيلحظ وجود مذبح آخر ومن خلال فك طلاسمه يرى أنه تقدمة للرب هدهد بينما النص اليوناني يقول أنه مقدم للرب زيوس، إلا أن الباحث أكثر فأكثر في شؤون التاريخ يرى أن هدهد قد انتحل بعض صفات زيوس..

ويتابع كيوان قائلاً: ومن المذابح الملفتة والتي اكتسبت اهمية دينية وتاريخية معاً، والتي نفضت الغبار عنه أعمال التنقيب للبعثات الأثرية، هو مذبح قرية سبع، الذي تفننت في نحته أياد ماهرة متمرسة، والتي خطت أناملهم على صغحات ذلك النقش الحجري أشكالاً بشرية، ففي أسفل ذلك النقش صورة رجل من الواضح أن العوامل الطبيعية نالت من "النقش" ، ما أدى إلى تشويهه، ليبقى منه جذعه ولحيته القصيرة، بينما في أعلى النقش رسم النحات صورة لرجل رأسه مفقود وكتفه الأيمن عار"..

معبد عتيل

زخارف و طقوس

حسن حاطوم

ويقول الباحث الأثري حسن حاطوم" أن الحكايات التي خطها الأقدمون على صفحات تلك المذابح ، والطقوس المقامة على أبواب المعابد ما زالت صورتها مطبوعة من دون تزيين أو رتوش على الصفحات البازليتية لتلك المذابح ، كونه لم تنل منها يد عابثة باحثة في خفاياها عن كنوز ثمينة، لتبقى ذلك الكتاب الحامل معه أسرار من جاء تلك المنطقة مستوطناً، ومن يزور متحف السويداء مطلعاً على أرشيفه الأثري لابد أن تلتقط كاميرا عينيه المزيد من المذابح التي غلب عليها الطابع الزخرفي، فأحدها نقش عليه صورة رجل لحيته قصيرة بغطي رأسه بخمار، وبعد القراءة التاريخية لذلك النقش تبين أنه لكرونوس، وقد نقش عليه أيضاً عين تشبه العين الساحرة، ومن ينظر وعلى يمنيه طبع ذلك النحات صورة لعقرب سام، ليطبع على يسارها صورة مغايرة لها في الشكل مطابقة لها في الاسم وهي لأفعى، ويبدو أن المغزى من هذه النقوش هو الوقاية من الشرور.

وتابع حاطوم: المذبح ليس بالضرورة من تنحر فوق بلاطته الذبائح. بل من المحتمل أن يستخدم لحرق البخور أيضاً، ولعل غالبية المذابح التي عثر عليها، منها ما زال تحت وصاية بيته الأثري ألا وهي المعابد والمواقع الأثرية. ومنها ما تم نقله إلى متحف السويداء الوطني، كي لا تنال منه الايادي العابثة، وقد خط حروفها المنقوشة على هذه المذابح تارة بلغة يونانية وأخرى بلغة نبطية، ما يدل على التنوع البشري المتعاقبين على المنطقة، لتبقى الطقوس بالنهاية الرابط بين تلك الحضارات التي ما زالت تقرأ بتمعن من محبي التراث والتاريخ، ما أبقاها حية تنبض بالحياة رغم موت أصحابها، كون أرواحهم ما زالت تسكن في المكان، لتحاكي من جاء سائلاً ومستفسراً عن التاريخ الذين ما زال مؤرخاً على جدران المواقع الأثرية..

أحد المعابد