عام 2015، كتب الإعلامي الدكتور فائز الصايغ 1947- 2023، في مادةٍ صحفية عنوانها "هذيان شيخ القلم" في مجلة الأزمنة: "هل يستفيد القارئ مما نكتب؟، وهل للمقال الأسبوعي تأثيرٌ في الرأي العام؟، وهل صحف وكتّاب العالم وتحديداً في دول العالم الثالث لهم التأثير الإيجابي المأمول لدى الرأي العام؟، وهل من جمهورٍ ينتظر فعلاً؟، تُراودني هذه التساؤلات كلما هممتُ في الكتابة، وأحتار أي الموضوعات يكتسب أهميةً في مقالٍ أسبوعي"، هذه التساؤلات، بعد سنواتٍ من العمل في ميدان الإعلام، وإدارة العديد من المؤسسات الإعلامية، تُوجز الذهنية التي كان صائغ ينتهجها، مُوقناً أن الإجابة على ما سبق تستوجب جهداً وبُعد نَظَر، لذلك كان لا بد من الترفع عن الإشكاليات الشخصية واحترام رؤى زملاء المهنة، وهو ما أكسبه محبةً واحتراماً ممن عاصروه وعملوا تحت إدارته، لِيوصف بالرجل والإداري الكفؤ وصاحب القرار.

مناصب إعلاميّة

حاز الصايغ درجة الدكتوراه في الإعلام، وتدرج في العمل الإعلامي، فكان مديراً لمكتب وكالة الأنباء السورية سانا في القاهرة وموسكو، وشغل عدة مناصب في الصحف منها سكرتيراً للتحرير في صحيفة تشرين، ومديراً للتحرير في صحيفة الثورة، ثم عاد للعمل في سانا كمدير عام مساعد ومدير للتحرير، ليصبح لاحقاً مديراً عاماً، كما تبوأ خلال مشواره الحافل عدة مناصب إعلامية، منها مدير عام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ورئيس تحرير لجريدة الثورة، ورئيس أيضاً لمجلس إدارة مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر، ورئيس لاتحاد وكالات الأنباء العربية (فانا) إلى جانب كونه عضواً في مجلس الشعب السوري في الدور التشريعي 2012– 2016، وبموازاة هذا كانت له مئات المقالات والزوايا في السياسة والمجتمع والإعلام، ومع بدء الحرب عام 2011، كان حاضراً للدفاع عن سورية وكشف التضليل الذي مارسه كتّاب وصحفيون في محافل إعلامية عديدة، وفي رصيده كتاب "معاً على الطريق".

شركاء المهنة

يُشيد زملاء الصايغ بأخلاقياته وقدرته على تولّي المناصب بكفاءة واقتدار، ولا سيما فيما يتطلب العمل الإعلامي من تعاونٍ وحسن إصغاء وجهدٍ متواصل، كانت المسؤولية بالنسبة له امتحاناً لا بد من إثبات النفس فيه، ويُحسب له حرصه على مواكبة المؤسسات الإعلامية لما يستجد في مُختلف المجالات، من ذلك الانتقال إلى النظام المعلوماتي في سانا، والاهتمام بالبرامج السياسية في التلفزيون، لذلك عدّه كثيرون صاحب بصمة في الإعلام السوري، ومُعلّماً مُتواضعاً، دافع عن زملاء المهنة كشركاء لا يُمكن الاستمرارية من دونهم، كما لا يستوجب الاختلاف معهم العداء والإقصاء، ولهذا كانت عبارات الرثاء في رحيله واستحضار الذكريات والمواقف، عصيةً على الإيجاز.

الإعلامي فائز الصايغ

موقفان كبيران

الصحفي فواز خيو

الصحفي فواز خيو استعاد سنواتٍ جمعته مع الراحل وقال: "بالتأكيد كان فائز الصايغ مسؤولاً له أخطاؤه كغيره، لكنه كان رجلاً بكل ما تعنيه الكلمة، تستطيع التعامل معه بثقة وتقول له أي شيء، كان صاحب قرار، ذا شخصية قوية، يُقرر ويفعل في نفس اللحظة، ويحفظ حقوق من يعمل معه ويحميهم".

يحفظ خيو موقفين كبيرين للراحل، رغم المعركة التي وقعت بينهما على حد تعبيره، ويقول: "أشعلت معركة مع الدكتور الصايغ عبر منشور في النت انتشر كالنار في الهشيم، وعندما كنت أستعد للسفر إلى البحرين نهاية عام 2004، دخل مدير مكتبه ليوقع لي إجازة من دون راتب، وأنا خارج من المكتب وإذ هو خارج من مكتبه أيضاً، سلّم عليّ بعناق وعاد بي إلى مكتبه، قلت له: (يا دكتور أنت عندك مشوار، قال ما عليك)، طلبَ لي القهوة ودردشنا وعلم طبعاً أني ذاهبٌ بعقد عمل، أعطاني كِتاباً يُفيد أني مراسل جريدة الثورة في المنامة، هذا الكِتاب لا يترتب عليه راتب وإنما يدعم وضعي هناك، وقال لي: (أي شيء تحتاجه هناك اتصل بي)، موقفه هذا ليس اتقاءً لشري لأنه يعلم أن سفري قد يمتد سنوات، لكنه موقف رجلٍ حقيقي فوق الأحقاد الشخصية".

الصحفية رنده القاسم

يُضيف خيو: "حصلت مشاكل معي بعد أشهرٍ، وعدت، كان الدكتور فائز عاد إلى التلفزيون، لاحقاً قدمت مسلسلاً للتلفزيون في حلقات منفصلة، ورغم موافقة لجنة القراء عليه إلا أن البعض رفض إتمام العمل، وعندما حدد الدكتور موعداً لجلسة التملّك، قالت له إحدى المسؤولات عن الموضوع: (أنا لن أحضر الجلسة)، فقال لها حرفياً: (لجهنم، أنتم تقبلون أعمالاً رديئة، وهذا من أهم كتابنا وتفعلون معه هكذا)، ثم تملكوا عشر حلقات ولم تُنتج".

قيمة الحوار البنّاء

المخرج محمد عنقا كان صديقاً للراحل بقدر ما كانا رفيقي مهنة، وحتى بعد تقاعد الصايغ لم تنقطع لقاءاتهما، يقول عنقا في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "النبل، الإخلاص، سعة الأفق، فن القيادة في التعامل مع الآخرين، والكرم بلا حدود في كل شيء، هذه القيم السامية حاضرة في شخصية الراحل الكبير والإعلامي المعلّم الدكتور فائز الصايغ"، أما عن إدارته الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، يقول عنقا أيضاً: "سبقته سمعته الإنسانية العطرة ومهارته الإعلامية المميزة التي كان يتداولها الصحفيون في كل مكان، سبقته إلينا في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون قبل أن تتشرف بتسلمه مقاليد إدارتها، فكان استقبالنا له مديراً عاماً لبيتنا الإعلامي العريق، شمساً من الأمل أضاءت نفوس العاملين في الهيئة بمختلف مواقعهم ومهماتهم، ولم تمض أيامٌ قلائل حتى نعمت الهيئة بالطمأنينة والاستقرار، ونشطت الروح الإبداعية المُجددة في مختلف البرامج، ولمس الإداريون والعاملون قيمة الحوار البنّاء مع المدير العام منهجاً وأسلوباً، وأهمية الاحترام والتقدير المتبادل بين المسؤول الإداري والإعلامي وفريق العمل، فضلاً عن جو المحبة والتسابق في إنجاز المهمات بأفضل وأجمل صورة".

وعلى تعدد المناصب التي تولاها الصايغ، تكثر المواقف الرجولية التي تروى عنه، يُضيف المخرج: "كان رجلاً كبيراً ترفّع عن الصغائر في فن الإدارة والتوجيه، كذلك كانت منجزاته على صعيد المعنويات، ومواكبة التقنيات، ولئن رحل عنا الإعلامي الكبير الدكتور الصايغ بجسده، فإن محبته ومآثره الفكرية، ومدرسته الإعلامية المميزة، ستبقى في قلوبنا وضمائرنا نبراساً يُستضاء به على دروب الإعلام".

الحزم مع التشجيع

الزميلة رنده القاسم تعرف الدكتور الصايغ منذ التسعينيات، حيث كانت تجمعه صداقة مع شقيقها سعد من خلال عملهما في صحيفة الثورة، وتوسعت الصداقة فأصبحت عائلية، تقول القاسم لـ "مدوّنة وطن": "عام 2004 أصبح الدكتور فائز رئيساً لتحرير جريدة الثورة، وكنت أعمل حينها في قسم الدراسات والترجمة، وقد تميزت إدارته بالحزم، مع تشجيع للصحفيين العاملين تحت إدارته، وأنا منهم، وكان له الفضل في تشجيعي على ممارسة الترجمة الفورية عند استقباله لضيوف أجانب، ومع انتقالي لإذاعة دمشق عام 2015 قمت بإعداد حوار معه، وهو الأمر الذي وافق عليه برحابة صدر".

في أواخر عام 2021، أشرفت القاسم على "خاطرة على هواء إذاعة دمشق"، وهي فقرة يومية يقوم على كتابتها صحفيون وكتّاب سوريون، والدكتور واحدٌ منهم، تُضيف للمدوّنة: "في كل مرة كان يسألني عن رأيي في الخاطرة، فأرتبك من مدى تواضعه وأشعر بمسؤولية الطالبة أمام أستاذها، قبل أسابيع من رحيله، توقف عن كتابة الخاطرة، وكان دائماً يعتذر ويطلب مني استبداله بكاتبٍ آخر فأقول له بكل صدق: (لا بديل عنك يا أستاذنا)، ورغم آلامه أرسل لي خاطرة عنوانها (تعب القلوب)، ولم أكن أعلم أنها ستكون الخاطرة الأخيرة".

قبل رحيله بأيام قليلة، بعثت القاسم للراحل الصايغ برسالة لتطمئن على صحته فكان الجواب: "الحمد لله، في الطريق الصحيح نمشي ومتيقن من الوصول إلى السلامة بإذن الله"، تقول الزميلة: "شيءٌ ما في هذه العبارة استوقفني وتوجست منه، لا أدري لماذا، ربما كان الراحل يحاول استدعاء الأمل بقوة، رغم الكثير من عبارات الأسى والحزن في كتاباته، لكنه أيقن في النهاية أن السلامة في عالمٍ آخر، غير عالمنا هذا".