حققت جوقة "أم الزنار" حضوراً بارزاً وهويةً خاصَّة بها في مجال الموسيقا والغناء، وحرصت خلال مسيرتها الفنِّية على حفظ الموروث الموسيقي السوري عموماً، والسرياني -بشقيه الكنسي والشعبي- خصوصاً.

المسيرة والأهداف

نشأة الجوقة والمراحل التي مرت بها حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، كان محور حديث الأب "طوني يعقوب" راعي كنيسة "أم الزنار" والمشرف على الجوقة، لموقع "مدونة وطن" والذي يقول: «قبل تسلُّمي مسؤولية الإشراف عليها في سنة 2006 كان جلُ نشاط الجوقة ينحصر بخدمة الطقوس الكنسية و"الإيتوروجية" الخاصة بالكنيسة، والتي تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على الموروث الموسيقي الكنسي السرياني القديم، وكان هدفنا التالي إظهار ذاك الموروث الذي يزيد عمره على آلاف السنين، وتقديمه بالشكل الذي يليق بتاريخه العريق، إلى جانب الموروث الموسيقي السرياني الشعبي كذلك، والذي يُشكِّل أساساً للموروث الموسيقي والغنائي السوري القديم، وتقديمها بقوالب موسيقية متجددة وعصرية كي نحدث الأثر اللائق والراسخ في نفوس المتلقين».

إشرافي على الجوقة لم يكن من الناحية الموسيقية فقط، بل حرصت على تعزيز روح التعاون بين أفرادها، وعلى العلاقة الأخوية بينهم، بما يحقق الانسجام التام، والذي ينعكس بطبيعة الحال على أدائهم الفنِّي لاحقاً

روح التعاون

ويضيف الأب "يعقوب" أثناء لقائه مع المدونة في القاعة الأثرية للكنيسة: «عدد أفراد الجوقة بحدود 40 شاباً وشابةً، تتراوح أعمارهم ما بين سن 17– 30 عاماً ولم يكن معظمهم من الدارسين للموسيقا، أو العارفين بأصول الغناء، لكنهم كانوا من أصحاب الموهبة الفطرية ويمتلك بعضهم خامات صوتية مناسبة للغناء الكورالي الجماعي؛ لذا كانت التدريبات مكثَّفة ومتواصلة من أجل وصولهم لدرجة التمكُّن من التعامل مع مقامات التراتيل السريانية المؤداة في صلوات الكنيسة.. ساعدنا في تلك المرحلة الموسيقي "نديم شنور" حيث تولى مسؤولية الإعداد الموسيقي للأعمال التي كانت تقدِّمها الجوقة أثناء الاحتفاليات الدينية التي تقيمها الكنيسة عادةً، ومن أهمها مهرجان "عيد السيدة" الذي كان يضم العديد من الأنشطة الثقافية والفنية، وشارك فرقة الجوقة مطربون ومطربات أمثال "عبير نعمة" في موسمي 2007-2009 إلى جانب "سامر كابرو" وآخرين».

الكاهن طوني يعقوب المشرف العام على الجوقة

ويتابع حديثه بالقول: «إشرافي على الجوقة لم يكن من الناحية الموسيقية فقط، بل حرصت على تعزيز روح التعاون بين أفرادها، وعلى العلاقة الأخوية بينهم، بما يحقق الانسجام التام، والذي ينعكس بطبيعة الحال على أدائهم الفنِّي لاحقاً».

شخصيات احترافية

تطور نشاط الجوقة لاحقاً بشكلٍ ملحوظ -حسب قول الأب "يعقوب"- وذلك من خلال الشراكة التي تمَّت بينها وبين شخصيات موسيقية محترفة وقديرة تركت أثرها الواضح من خلال الإضافات التي قدَّمتها لأدائها، ومنها الموسيقي والملَّحن "شادي إميل سروة" عام 2007، ومعه شاركت الجوقة في مهرجان "قيثارة الروح" الخاص بالأغنية الإنسانية والترنيمة الروحية الذي أقيم "بدار الأوبرا" في "دمشق" سنة 2010، حيث حصدت خلاله جائزة أفضل كلمات عن عمل الجوقة الموسيقي الخاص والأول الذي وضع ألحانه حينها الملحِّن "جورج دودوش"، وكتب كلماته الشاعر "نبيل باخص"، وتكررت المشاركات في عامي 2017- 2021 من خلال "ملتقى الجوقات السورية" الذي رعته "وزارة الثقافة".

قائد الجوقة اسكنر ياشوع

ويشير الأب "يعقوب" إلى أن هذه المشاركات حمَّلت الجوقة مسؤولية كبيرة من جهة تقديم الموروث الثقافي والموسيقي السرياني أمام الجمهور بأفضل أداء يعكس الجهود التي بذلت خلال السنوات التي خلت للوصول إلى المستوى الاحترافي.

جوقة الطريق

الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة "حمص" عام 2011 ولاحقاً، أجبرت أفراد الجوقة على التشتت نتيجة التهجير القسري الذي طال سكَّان حييِّ "بستان الديوان" و"الحميدية"، لكن ذلك يمنع أعضاءها من التوقف أو الاستسلام للظروف حسب قول راعي الكنيسة والذي يضيف: «هنا، تشكَّلت "جوقة مصغَّرة سميناها "جوقة الطريق" تعبيراً عن استمراريتنا بالطريق الذي بدأناه قبل سنوات، وكان مركز تدريباتها في قرية "فيروزة" القريبة من مركز المدينة وكان عداد الجوقة يعتمد على شبيبة الكنيسة السريانية الفتية، إضافة لبعض أفراد الجوقة الأم الأساسية.. إصرارنا لتأكيد استمرارية الحياة في مدينة "حمص" ترجمناه عام 2013 من خلال الحفل الموسيقي الذي أقيم على خشبة مسرح "دار الثقافة" احتفاءً بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الفنان الكبير "وديع الصافي"، إضافة إلى مشاركة أخرى بنفس العام ضمن احتفالية خاصة بعيد الأم في قرية "صدد"».

الموسيقي شادي إميل سروة

ويؤكد أنه مع إعادة إحياء مهرجان "عيد السيدة" عام 2014 عادت الجوقة لتسجيل حضورها مجدداً ضمن الحفل الموسيقي الذي أقامته الكنيسة وسط الدمار الذي لحق بها، تخليداً لذكرى الإبادة السريانية "السيفو".

مسؤولية

"اسكندر ياشوع" أحد أفراد الجوقة وقد انضم إليها منذ كان في سن العاشرة وتحديداً عام 2000 يقول: «أضاءت الجوقة على اهتماماتي بالموسيقا والغناء وهذا ما شجَّعني على دراسة أصولهما بشكل أكاديمي لاحقاً من خلال مدرِّسين مختصين، وزادت مشاركاتي معها خلال 14 عاماً من خبرتي، وهذا ما أهَّلني لتسلُّم قيادتها عام 2014 بعد إعادة هيكلتها من جديد وكانت هذه مسؤولية كبيرة وضعت على عاتقي بعد انتقالي من مرنِّم فيها إلى قائدٍ لها.. هدفي الأساسي كان تطوير أداء الجوقة وإبراز المستوى الاحترافي الذي وصلت إليه، إضافةً لتغيير وجهة النظر السائدة عن كون الجوقات الكنسية قادرة على تأدية جميع الأنماط الغنائية الأخرى، وهذا ما تطلَّب من أفرادها مزيداً من التدريب المكثَّف خاصَّة قبيل مشاركتنا بالفعاليات التي دعينا إليها، والتي حرصنا فيها، على تقديم الموروث الموسيقي السرياني الكنسي والشعبي بقالب حديث وعصري يلقى القبول لدى الجمهور، وشاركنا بعدة مهرجانات، كليالي رمضان في "حلب" عام 2019، واحتفالية "جارة القمر" ومهرجان "القلعة والوادي" عام 2021، إضافة إلى مشاركات ضمن فعاليات اجتماعية وتوعوية».

خريطة الطريق

الموسيقي "شادي إميل سروة" يؤكد في حديثه للمدونة على روابط المحبة والتعاون بينه وبين الجوقة، هذه العلاقة التي تعود جذورها إلى ما قبل 15 عاماً، حيث أوكلت له مهمة تدريبها، وقيادتها بالأمسيات الموسيقية التي كان يشهدها مهرجان "عيد السيدة".

ويقول "سروة": «مذ ذاك الحين لم يتوقف ذاك التعاون بل استمر من خلال الحفلات المشتركة بينها وبين جوقة "مار أفرام السرياني" التي أترأس قيادتها منذ سنوات، وكان آخرها حفل عيد الميلاد عام 2022، وقبل عام أيضاً استطاعت الجوقة من خلال خدمتها لطقوس الكنيسة والاحتفاليات التي شاركت بها من رسم خطٍّ فني خاصٍّ بها، جعلها من أهمِّ الجوقات الغنائية الكنسية في المنطقة الوسطى خصوصاً، وعلى مستوى "سورية" عموماً، قدَّمت الموروث الموسيقي والغنائي السرياني الذي رفعت راية الحفاظ عليه، بأسلوب جاذب وعصري».

حداثة وتراث

الفنان "أمين رومية" رئيس فرع "نقابة الفنانين" في "حمص" تحدَّث عن جوقة "أم الزنار" قائلاً: «ما تقدِّمه برأيي يعيدنا إلى زمن كانت فيه المعابد الدينية تزدحم بجوقات المنشدين في "سورية" القديمة، حيث كان الاعتقاد السائد آنذاك بأنَّ الموسيقا ذات منشأ إلهي، وجوقة "أم الزنار" تشكِّل اليوم امتداداً لتاريخٍ فنِّيٍّ وروحيٍّ عميق والمشرفون عليها من الآباء الأجلاء وعلى رأسهم حضرة الأب "طوني يعقوب" ينطلقون باعتنائهم بها من إيمانهم العميق والراسخ أن للموسيقا دوراً تربوياً للناشئة ودوراً ببناء الإنسان وجزءاً من نسيجه الفكري والاجتماعي، وقد ترجمت الجوقة ذلك من خلال عدم حصرية نشاطها بما يخص تقديم التراث الموسيقي السرياني البالغ الثراء، بل تعدته لتقديم الموسيقا العربية الأصيلة، وقد نجحت بتقديم الموروث الموسيقي السرياني الذي أبدعه "أفرام السياني" و"رابولا" وشمعون الخزاف" وآخرون بأسلوب يحاكي روح العصر الحالي مستخدمة مزايا التعدد الصوتي لأفرادها، إضافةً للتوزيع المدروس بين الفرقة الموسيقية والمغنين، مع تقليص دور المغنِّي المنفرد لصالح الغناء الجماعي الأكثر المعبِّر عن شخصية المجتمع الأصيلة، هذا كلَّه جعل من جوقة "أم الزنار" حسب رأيي الجوقة الوحيدة في مدينة "حمص" التي استطاعت تقديم الغناء الديني والمدني ببراعة، وحققت حضوراً مميزاً من خلال جولاتها الفنِّية في مدن سورية عدَّة».

نذكر أخيراً بأن اللقاء مع حضرة الأب "طوني يعقوب" والتواصل مع قائد الجوقة "اسكندر ياشوع" قد تمَّ بتاريخ 16– 17 على التوالي من شهر كانون الثاني 2023.