لم تكن شواهد القبور أو ما تسمى الآوابد الجنائزية،والتي " احتضنت" حجارتها البازليتية، من " أسلم" الروح لباريها منذ آلاف السنين،إلا بمنزلة الكتاب التاريخي المؤرخ لحالة المتوفي في تلك الأزمنة، فبالرغم من خلو معظم القبور من مواتها، إلا أن تاريخهم وأنماط معيشتهم لم تمحَ لتاريخه، لكونها ما زالت مدونة على صفحات تلك الحجارة، لتبقى المرجع التاريخي للأجيال القادمة.

طقوس جنائزية:

يقول الباحث الأثري الدكتور نشأت كيوان لمدونة وطنeSYria " أن الزائر لقرى وبلدات محافظة السويداء لايمكنه مغادرتها دون ان "يْعرج" لرؤية ما تخفيها زواياها من آوابد جنائزية، التي ما زالت تحتفظ على صفحات حجارتها" الخرساء" باسم المتوفي ومهنته ومرتبته الاجتماعية، وأحياناً عمره، فشواهد القبور المكتشف منها وغير المكتشف، ما هي إلا جزء من الطقوس الجنائزية الذي كان معمول بها قديماً، وخير مثال على ذلك مدافن مدينة صلخد المكتشف عام ٢٠٠٥، التي ما زالت " شواهدها" بمنزلة " السيفي" الشخصي للمتوفي المٌحتفظ به منذ أكثر من ألفي عام، والمدافن المكتشفة هي عبارة عن مغارة محفورة في السفح الغربي لقلعة صلخد حيث تمتد على مساحة 126 متراً مربعاً، و قد بنيت واجهاتها من حجر البازلت المنحوت لتقفل ببابٍ حجري

، ومن يتوجه إلى بلدة الكفر شرقاً لا بد أن تْرشدك آوابدها الأثرية لشاهدة جنائزية وهي لإمرأة متوفاة منذ آلاف السنين، هذا ما " نطقت" به تلك الشاهدة المدون عليها اسمها وعمرها باللغة اليونانية، ولعل رحلة البحث غير المتوقفة للمهتمين بشؤون الآثار والتاريخ، لم تكن مْخيبة على الإطلاق ولاسيما وأنها مْهرت بعدة مكتشفات أهمها " قبر الحمرات" الذي يْعد الناطق التاريخي باسم من جاء منطقة جبل العرب ساكناً وليدفن بين صخورها البازليتية، حيث يعود تاريخ تلك الآوابد الجنائزية إلى القرن الأول الميلادي، وبعد فك " شيفرة" الكتابة اليونانية والنبطية المدونة على الآوابد الجنائزية وترجمتها للعربية تبين أن من بناها هو الأمير النبطي أودينات بن أونيل لزوجته "الأميرة حمرات".

ومن يتصفح آثار قرية سيع فلابد له أن يعثر بين تلك الصفحات على قبرين يرجح أن تاريخ بنائهما كان ما بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي"

وتابع كيوان قائلاً" لعل ما يميز تلك الآوابد الجنائزية، هي " اللمسة" المعمارية المتقنة، والمشغولة بأيادٍ ماهرة متمرسة تفننت في بنائها،

فمن يجالسها كأنه يجالس التاريخ، ليقص عليه حكايا أيام زمان، وشخصيات تلك الأيام التي تعاقبت على المنطقة، فالمكتشفات الاثرية التي جرت في مناطق جبل العرب، والتي لم تتوقف لتاريخه، وما رافقها من " توابيت" حجرية وشواهد قبور، لم تكن إلا بمنزلة " سلسلة" تاريخية لإظهار الواقع الاجتماعي للأسر التي سكنت مناطق جبل العرب قديماً"

الآوابد الجنائزية غائبها حاضر:

الباحث الأثري حسن حاطوم قال" لعل طقوس وعادات من سكتوا ودفنوا في مناطق جبل العرب، ما زالت حاضرة لم تطويها السنين، فعلي شواهد القبور عنونّ وكتب قاطنوا تلك المناطق في العصور الغابرة، سيراتهم الذاتية، فالمتجول بين قرى وبلدات جبل العرب سيلحظ أنها لاتخلو من مقابر نبطية أو رومانية، والقارئ لتاريخها سيكتشف أنها تعود للفترات الواقعة بين القرنين الثاني والرابع الميلاديين.

موزعة بين مناطق شهبا والسويداء وقنوات، وذكير وداما والهيت وعمرة الخ والقائمة تطول

لتأخذ أشكالاً معمارية متنوعة فمنها مدافنٌ أرضية، وأخرى برجية، فمن يقصد بلدة قنوات باحثاً في " مجلد" آوابدها الأثرية فسيعثر فيها على خمس عشرة مقبرة أثرية، بنى حجارتها معماريو القرن الثاني ميلادي، ومن يغادر بلدة قنوات متوجهاً للمدينة الأم السويداء سيحظى بالتعرف على تاريخ ٢٠ مدفناً.

ومن يودع مدينة السويداء متوجهاً إلى قرية المجدل غرباً، لا يمكنه الخروج منها دون أن تكتحل عينيه، بتلك المقبرة البرجية العائد تاريخها إلى العصر النبطي، التي تقف شامخة وسط القرية، لتحاكي بيوت القرية القديمة من طابقها الثاني، محتضنة لتابوتين حجريين كبيرين، نْقش على وجه أحدهما كتابات يونانية، و بجانبها صليبان ما زالت تلك النقوش لم تنل منها يد الطبيعة"

وتابع حاطوم قائلاً" ومن الآوابد الجنائزية التي دونتها البعثات التي زارت المنطقة، شاهدة قبرٍ في قرية ذيبين يعود تاريخها إلى القرن الثامن إضافة للعثور على ثمانية شواهد جنائزية بمدينة صلخد تعود إلى الفترات الواقعة بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين وقد تكونت من نصوص كتابية من الطرازين النسخي الأيوبي والمملوكي"

ولعل من أهم المقابر الجنائزية التي ما زال ماضيها يحاكي حاضرها، لتجيب على استفسارات من جائها سائلاً، عن من أسبل عينيه بداخلها مقبرة أسرة الإمبراطور فيليبيون الواقعة في مدينة شهبا، وهي مقبرة ملكية محاذية لساحة المعبد الإمبراطوري من الجنوب وتشكل معه وحدة معمارية متكاملة تفتح واجهة المقبرة باتجاه نهاية ساحة المعبد وكانت فيما مضى مكونة من طابقين".