وثق عبر كتاباته مراحل تاريخية مهمة خشي عليها من الضياع والنسيان، بالاعتماد على شخصيات واقعية مؤثرة حملت الكثير من القيم الإنسانية والفكرية والوطنية، وذلك بهدف تعريف الجيل الحالي بإرث وطني جميل وغني، فكانت ثلاثية "نزيف السنديان" و"قحطستان" و"أشرعة الروح" التي أرادها "أكرم منذر" مرآة للماضي في وقتنا الحاضر.

حكايات عامرة

عمل "أكرم منذر" لعقود في مجال الهندسة، لكنه انصاع للقلم وتماهى معه في عقده الخامس محاولاً إثراء ذاكرة قارئه بذكريات بقعة جغرافية تعني له الكثير وهي مسقط رأسه، وكانت مسرحاً لبطولات رجال طحنت مقارعة الاستعمار أيامهم، وبقيت قصصهم عامرة بما لم يسجله الرواة، وهذا ما دفع بكاتبنا لتقمص دور الراوي والعبور إلى ذاك الزمن.

الدافع هو الشغف.. أعتقد أن الأدب والفن والقيم الجمالية والإنسانية هي الخلاص للنفس البشرية

"منذر" في إجابته عن أثر المعاناة في الإنتاج الأدبي يخبرنا أنه ليس لكل معاناة آثار سلبية، فالمعاناة جزء من الحياة ومعالجة لحاضر صعب، يمكن توجيهها لتكون ذات قيمة ويصبح أثرها إيجابياً في الحياة، لأنها جزء من وعينا وتجربتنا كأشخاص مقيمين وعابرين لهذه الحياة لنا بداية ونهاية.

الكاتب أكرم منذر

يقول "منذر": «هذا ما ينسجم مع ما ذكرت في الرواية الثالثة "أشرعة الروح"، من أن هناك جهادين في تاريخ الإنسان، الجهاد الأصغر وهو التغلب على الظروف المعيشية والحياتية، والجهاد الأكبر الثاني هو عندما نجعل من حياتنا قيمة ومعنى».

وعن دافع الكتابة في هذه المرحلة يضيف: «الدافع هو الشغف.. أعتقد أن الأدب والفن والقيم الجمالية والإنسانية هي الخلاص للنفس البشرية».

من فعاليات البيت العربي النمساوي للثقافة والفنون

توثيق إنساني

أيمن أبو عسلي

بعد تجربة ومعاناة وأفراح وأتراح وأحزان وخليط من المشاعر وجد "منذر" أن لديه شغفاً لتوثيق إنساني جمالي أخلاقي وطني، وهذا الشغف كما يقول، له صبغة وطنية، وأن الأدب هو الذاكرة الوجدانية للناس.

ويضيف: «أنا هنا لا أقدس الماضي بل أثق أن الإنسان مثل الشجرة لها جذور وهي الماضي وساق وهو الحاضر وأوراق وأغصان وثمار وهي المستقبل، ولا يمكن أن تعيش هذه الشجرة من دون أي جزء من أجزائها».

وعن الأحداث والمواقف المفصلية التي أخذت "أكرم منذر" إلى الكتابة يقول: «أتشرف بالانتماء لبلدة "القريا" وكان أحد رموزها المرحوم "سلطان باشا الأطرش"، هذه البيئة شكلت ذاكرتي الوطنية.. والدي عاش مع أهله في "النبك" في المنفى الطوعي عام 1927 بعد انتهاء الأعمال العسكرية المباشرة، ما دفعهم للهجرة إلى "الأردن" ومنها إلى شمال الجزيرة في وادي "سرحان"، كان طفلاً آنذاك وعاد إلى "سورية" ليكمل تعليمه، حكى لنا ذكريات عن شظف العيش وعن تداعيات الثورة ضد المحتل الفرنسي والأزمات الاقتصادية وما تلاها، أتذكرها بوصفها أحداثاً غنية للحوارات، وتكتب فيها قصص وروايات حزينة لابد من سردها على لسان شخوص تلك المرحلة».

معانٍ وجدانية

ويتابع "منذر" بالقول: «ثقتي أن كل ما كتب وما جمع من ذكريات تلك المرحلة لم يفِِ الثورة السورية الكبرى حقها، ولا المعاني الإنسانية التي جسدها "سلطان الأطرش" الذي قاوم ورفض التقسيم إلى دويلات، وحارب النهب لمقدرات الوطن، كل ذلك شكل مادة أدبية توثق هذا الجانب ليس بالمعنى التاريخي أو التأريخي بل بالمعنى الوجداني أيضاً، نذكر منه عندما جاء "سلطان الأطرش" إلى العمال وسألهم ماذا تفعلون قالوا نبني سوراً للكنيسة، فأجاب إنها صغيرة لا تكفى، وقال لهم "نريد كنيسة تتسع للمسلمين والمسيحيين".

شخوص ثلاثيته بالمجمل من الواقع وفق حديثه وقد لا نجد لها قريناً بالواقع، وهي جزء من شخوص المجتمع بعضها تطرق لاسمها وبعضها أعطاه أسماء أخرى مثل "شاهين" في "نزيف السنديان"، ومجموعة الشخوص شكلت هذا البطل الذي يشكل قيم الفروسية والنبل والوفاء والوطنية والأخلاق والقبح والفساد والخراب والطمع والشجع وهذه الثانية كانت وستبقى، قد تخبو جهود البطل في معركة لكن في النهاية الانتصار بالحرب هو نصير هذه القيم، ونحن محكومون بالأمل وفق رأيه.

مسيرة الاغتراب

كان لمسيرة اغترابه التي دامت ثلاثين عاماً -منها خمسة وعشرون عاماً في دول الخليج- آثار إيجابية وسلبية حسب قوله، وبقي الحس الثقافي ضمن الوقت المتاح محرضاً لمتابعة الإنتاجات العربية والعالمية، عبر محطات حياته، فبعد عام 2017 انتقل الى "النمسا" لتعويض هذا الشغف في متابعة قراءاته، وأضاف عليها أنشطة ضمن أندية ثقافية حيث يقيم، منها مشروع مكتبة لتنشيط القراءة الورقية وهو مشروع غير ربحي ثقافي وأدبي مع المهتمين العرب في "النمسا".

ويعد "منذر" ناشطاً ضمن عدة فعاليات أدبية على رأسها "البيت العربي النمساوي للثقافة والفنون" الذي يجمع العرب ويهتم بالنشاط الثقافي العربي حصراً بعيداً عن أي أنشطة وانتماءات، ويجمع فنانين وكتاب وأدباء مشهورين وبذات الوقت يقدم فرصة للأقلام الواعدة التي تبحث عن منبر.

ويقول: «بهدف إعادة القيمة للكتاب الورقي خاصة للأطفال الذين يولدون في المغترب، سعينا لتنشيط القراءة وباشرنا العمل بهذا المجال، وقد حصلت على ثلاثة آلاف كتاب بمساعدة صاحب دار "كيوان" للنشر "وائل كيوان"، ومجموعة دور نشر شملت كتباً ثقافية أدبية فلسفية، ركزنا بشكل أساسي على كتب الأطفال لأننا نشعر بالنقص الذي يعانيه الأطفال في المغترب في المادة الأدبية واللغوية العربية التي قد تشكل حالة فصل بينهم وبين أهلهم والبيئة العربية».

التراث الزاخر

"أيمن أبو عسلي" مهتم بالشأن الأدبي المحلي والعربي يقول: «لقد تشبع صديقي المهندس "أكرم منذر" بعبق الأرض التي نشأ عليها ونهل من ينابيع تراثها الزاخر بالعزة والشموخ، فجاءت ثنائيته "نزيف السنديان" و"قحطستان" معبرة عن مخزونه الفكري والوجداني المشبع بذكريات معاناة ابن الجبل وصموده بقوة إرادته وتحديه الأسطوري، حاملاً على عاتقه هم الوطن وفي صدره قلب العاشق».

"أبو عسلي" يغبط "منذر" أنه جالس قائداً مثل "سلطان باشا الأطرش" ولا يستغرب أن يفوح من كلماته عطر مفعم بالأصالة المتجذرة في تراب الوطن كسنديانة عتيقة ويبارك له إنتاجه الأدبي وإكمال ثلاثيته الزاخرة بالعطاء والحب.

المهندس "منذر" من مواليد عام 1955 تخرج من جامعة "دمشق" كلية الهندسة المدنية عام 1984 نشر أشعاره في جريدة "الخليج" وتنوعت أعماله بين القصة القصيرة والرواية.