بالرغم من ما يقارب 94 عاماً على تأسيسها، لا يزال صوت مطحنة "قنوات" حاضراً لم ينقطع منذ عشرينيات القرن الماضي حتى وقتنا الراهن، لتغدو المطحنة إرثاً تاريخياً ومادياً يحفظ ذكريات أجيال مرت عليها، ولا يزال صداها يتردد في المكان، لتصل إلى أسماع الأجيال ولتبقى محفوظة من جيلٍ إلى جيل.

ذكريات التراث

لم يتوقف دولاب المطحنة طوال تلك السنين، فلا يزال نهر الحياة في شرايينها جارياً.

يعود تأسيس المطحنة إلى عام 1928، ومنذ ذلك التاريخ لا تزال بمثابة الأم الولادة لمادة الدقيق، فسنابل قمح "كروم" بلدة "قنوات" والقرى المجاورة لها، والمغربلة في بيادر مزارعي أيام زمان، والمحفوظة في "كوايرهم" قمحاً خالياً من الشوائب، ليكون مسك ختامها "حجر" تلك المطحنة

يقول صاحب المطحنة "أحمد خير" لـ"مدونة وطن": «يعود تأسيس المطحنة إلى عام 1928، ومنذ ذلك التاريخ لا تزال بمثابة الأم الولادة لمادة الدقيق، فسنابل قمح "كروم" بلدة "قنوات" والقرى المجاورة لها، والمغربلة في بيادر مزارعي أيام زمان، والمحفوظة في "كوايرهم" قمحاً خالياً من الشوائب، ليكون مسك ختامها "حجر" تلك المطحنة».

حجر المطحنة قديماً

ويتابع بالقول: «ذكريات الماضي التي خط حروفها من حط أقماحه وبرغله على أرض المطحنة، لا تزال صورها تسكن الذاكرة وتستوطن القلوب، فحكايات الحقل والبيدر وقصص الزير وعنتر، المتداولة داخل المطحنة من المزارعين منذ ذلك الزمان، مازالت مكتوبة على جدرانها ليقرأها كل من أتاها حاملاً قمحه ليخرج به دفيقاً جاهزاً لصناعة الخبز العربي».

تجديد وتنوع

ويضيف: «لم يكن الدقيق هو منتج المطحنة الوحيد، فمونة البيت من البرغل والكشك، ولدت أيضاً من رحم مطحنة "قنوات"، لكن كان للبرغل جاروشته الخاصة به، وبقي طحن القمح والكشك على حجر واحد.. كان تشغيل المطحنة يتم باستخدام مادة المازوت، إلا أنه مع مرور السنين، دخلت الكهرباء على خط التشغيل، ولاسيما بعد أصبح للكشك وللبرغل مطحنتهما الخاصة بهما ليصبح تشغيل هاتين المطحنتين على الكهرباء، وليبقى محرك الديزل الأساس المشغل غير المتبدل لمطحنة القمح».

مطحنة القمح حديثاً

وعن طريقة إنتاج مادة البرغل سابقاً يشير صاحب المطحنة، إلى أنه كان يتم أولاً "تنميشه" بلغة المزارعين أي غسله بالماء، ليتم جرشه فيما بعد على الجاروشة، ولينقل بعدها على البيت لغربلته وفرز البرغل الخشن عن البرغل الناعم، إلا أن تلك الطريقة طواها الزمن وأرشفها في مخزن الذكريات، بعد أن بات للبرغل مجرشته الخاصة به، وبات يؤخذ جاهزاً من أرض المطحنة، فدخلت على الخط حالياً المادة العلفية التي أصبح لها مجرشتها لتلبية احتياج المواشي من الأعلاف».

عبق الماضي

بدوره يقول المحامي "أسامة الهجري" وهو أحد ساكني بلدة "قنوات": «لاتزال رائحة الدقيق المنتج من "رحى" تلك المطحنة منذ عشرينيات القرن الماضي، تعبق في المكان تأبى أن تغادره، فمن يأتيها زائراً مطلعاً على ماهية عملها ماضياً وحاضراً، ستنتعش بداخله ذكريات نتوق إليها، كلما عادت بنا الذاكرة إلى الوراء عشرات السنين، ولتبقى هذه المطحنة التي حافظ على إرثها أحفاد الأجداد حيةً في ذاكرة الأجيال الحاضرة، لتذكرنا بالماضي الجميل الذي صنعه لنا الأهل، فلعل جيل الأربعينيات الخمسينيات ما زالت ذاكرتهم تختزن بالكثير من ماضي تلك المطحنة، التي تحولت إلى ملتقى لفلاحي البلدة والقرى المجاورة، فأحاديث الحصاد والمونة هي لغتهم المعهودة».

أحمد خير صاحب المطحنة

ويضيف: «شريط ذكريات الماضي المؤرشف في منازل أهالي البلدة، ما زال بمنزلة المرجع للجيل الحاضر، فأبواب المطحنة التي شرعت منذ عام 1928 لم تغلق على الإطلاق، إلا بداعي التأهيل والصيانة الضرورية، والمواكبة لمتطلبات العصر، فبعد أن كانت تدار على المازوت فقط، أدخلت الكهرباء، إضافة لإحداث خط حديث لجرش البرغل، وآخر للأعلاف، والأهم من كل ما ذكر هو المصداقية بالتعامل مع الفلاحين الذي خط مساره الأجداد، ويلتزم به الأحفاد لتاريخه».

روح الحاضر

على صوت "عنين" حجرها يستفيق من بات تنوره تواقاً للخبز العربي، ليذهب إليها حاملاً أقماحه، ويأتي به دقيقاً، وعنها تحدث أحد أهالي البلدة "نايف زريفة" قائلاً: «رغم مرور أكثر من تسعين عاماً على انطلاق العجلة التشغيلية لهذه المطحنة، إلا أنها لم تهرم، حيث أبت أن تفرط بذكريات الأوليين الذين غادروها روحاً، تاركين خلفهم وعلى أرض هذه المطحنة ذكرى لم تمحها السنين، حيث تأسست المطحنة على يد الأخوين "أحمد وعلي خير" وذلك بعد الثورة السورية الكبرى، ورغم الأحداث في ذلك الزمان إلا أنها لم تتوقف عن العمل، وبقيت مستمرة إلى يومنا هذا على يد أحفادهم، وأهم ما يميز المطحنة هو أن القمح يُرفع إلى حجرة الطحن بواسطة حلزون وليس بالأيدي كما كان دارجاً في باقي المطاحن، أضف إلى ذلك فقد أجريت عليها بعض التعديلات مثل فرز البرغل الخشن عن الناعم، وغربلة القمح، حالياً وبعد العودة إلى كار الخبز العربي عاد للمطحنة ألقها الماضي، فمن منا نحن جيل الخمسينيات لا يتذكر كيف كان أهلنا يتجهزون لمؤونتهم السنوية التي تبدأ مع انتهاء موسم الحصاد، وكيف كانوا يتهيئون للذهاب بأقمحاهم لطحنها في تلك المطحنة».