تعتبر المنطقة الجنوبية من "سورية" -أي "منطقة حوران وجبل العرب" تاريخياً- من الأماكن الغنية زراعياً فقد كانت سلة الغذاء والقمح لـ"فلسطين" و"صور" وصولاً إلى "اليونان" و"روما"، وحملت الدلائل المادية الأثرية كيفية تطور عملية الزراعة والحصاد وتسويق المحصول وطحنه منذ العصر البيزنطي الروماني.

سلّة غذائيّة

في أبحاثه ودراسته يشير الباحث الدكتور "خالد كيوان" رئيس فرع جامعة دمشق بـ"السويداء" وأستاذ علم الآثار بجامعة دمشق أن قرى جبل العرب قد اعتمدت على الزراعة وتربية المواشي والدواجن، ولعل السؤال الذي يمكن طرحه، ما المنتجات التي كانت تُباع أو تصدّر إلى بعض المدن في المنطقة بالأخص نحو "دمشق" والبحر المتوسط أو الحجاز؟ ويضيف "كيوان" في حديثه لـ"مدونة وطن": «لعل من المؤسف حقاً عدم وجود معطيات كافية بخصوص ذلك، وإنَّ الدلائل الوحيدة بما يخص المنتجات هي تجارة القوافل المتجهة باتجاه "مكة"، لكنَّها تؤرخ من القرن السادس الميلادي وعلى الفترة البيزنطية، أما تربية المواشي والدواجن فقد كانت تتم بالمنازل، واعتمد الاقتصاد الريفي في منطقة حوران وجبل العرب على مجموعتين من الإنتاج، هما الحبوب والكرمة التي تغطي كامل مساحة جبل العرب باستثناء منطقة سهل "النقرة"، ويضاف إلى ذلك وجود الأشجار البرية التي تؤكل ثمارها مثل اللوز البري، التين البري، الزعرور البري، وتوجد هذه الأشجار حتى الآن في الأحراش بجبل العرب ولا تزال ثمارها تؤكل، ويُعتقد أن المنطقة عرفت الفستق البري الذي ينمو على ارتفاع 1200 متر، حيث تتوافر شروطه في المنطقة كما عرفت في شرقي جبل العرب شجر الأرز، ومازالت إلى يومنا».

إن منطقة جبل العرب معروفة أثرياً وتاريخياً وفق الدراسات والمراجع العلمية الأثرية بزراعة القمح، ويوجد دلائل أثرية على ذلك من خلال أعمال التنقيب التي جرت والتي توصلت إلى مجموعة من الدلائل أهمها الطواحين بأنواعها المائية التي تكثر في منطقة اللوا والقرى الشرقية من جبل العرب، إضافة الى طواحين صخرية وهي مقسومة لقسمين، وكذلك طاحونة رومانية تعود للعصر الروماني

في التّاريخ

ويبين "كيوان" إلى أن الدلائل ومعظم الدراسات الأثرية تشير إلى أنَّ جنوب سورية "منطقة حوران وجبل العرب" هي مخزن حبوب القمح، ومصدر تصدير الحبوب إلى "فلسطين وصور وحتى إلى اليونان"، فقد أثبتت أعمال التنقيب والبحث الأثري قيام سكان جبل العرب بزراعة القمح، وأهم الدلائل التي تشير إلى وجود ذلك المطاحن اليدوية المنزلية للحبوب المصنوعة من حجر البازلت، لاسيما تلك التي تمَّ كشفها في تنقيبات موقع سيع وتعدُّ شاهداً على الاستهلاك المنظم لهذه المادة.

الأستاذ الدكتور خالد كيوان

ويوضح الباحث الأثري أن حجارة "الكداسترو- المساحة" أو الخرائط المساحية العائدة إلى الفترة الرومانية، أفادت بوجود تنظيمات وتقسيمات لحقولٍ بأشكال هندسية تقليدية طولانية تم الكشف عنها إلى الجنوب الشرقي من جبل العرب في منطقة سيع، وفي "بصرى" التي اشتهرت منطقتها بزراعة الحبوب وعلى رأسها القمح، فعرفت حوران في العصر الروماني وحتى العصور الوسطى بأنّها مخزن الحبوب.

ويؤكد "كيوان" أن هناك نصاً يؤرخ لما قبل العصور الإسلامية من قرية "شعارة" في اللجاة، يذكر منع أهالي القرية من إقامة بيادر الحنطة في الأراضي المشتركة ولاسيما العامة، حيث كان إنتاج القمح في منطقة اللجاة شائعاً جداً، كما لوحظ في نهاية العصر السلجوقي والأيوبي بعض التدوينات لجغرافيين عرب تشير إلى أنَّ "درعا" قد اشتهرت بخمرها، ونوى كانت مستودعاً للقمح والحبوب والمصدر هو (المقدسي في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم).

طاحونة اثرية

دلائل أثريّة

الباحث الاثري حسن حاطوم

ويكشف "كيوان" عن وجود مجموعة من الدلائل على زراعة القمح في جبل العرب، حيث وجدت في جميع القرى الأثرية القديمة وفرة بالطواحين البازلتية، وصنّفت إلى نوعين هما: الطاحونة الصغيرة الفردية التي تتألف من طبقتين مستديرتين من الحجر البازلتي تتوضع الأولى فوق الثانية، فالقرص العلوي هو الذي يتحرك بالدوران بواسطة مقبض عمودي مثبّت داخل ثقب، يمكن تدوير القرص حول محور مثبّت في سوط القرص السفلي، وتؤرخ هذه الطواحين حتى أواخر العصر الهلنستي.

أما الطاحونة الرومانية فتتألف من جذعين من خشب الصنوبر المفرغ تقوم حيوانات الجرِّ أو الرجال بتدويرها على محورها حول الجذع الثابت على الأرض غير أنَّها قليلة الانتشار في المنطقة، فضلاً عن وجود طواحين مائية وجدت أمثالها في وادي اللوا على بعد بضعة أمتار من مدينة شهبا، ووادي المشنف قرب القرية، وتقوم بتحويل قناة تجر المياه لها، حيث عملت هذه المطاحن بواسطة أحجار بازلتية دائرية تشبه العجلات.

دعوة للاستكشاف

بدوره الباحث الأثري "حسن حاطوم" يقول: «إن منطقة جبل العرب معروفة أثرياً وتاريخياً وفق الدراسات والمراجع العلمية الأثرية بزراعة القمح، ويوجد دلائل أثرية على ذلك من خلال أعمال التنقيب التي جرت والتي توصلت إلى مجموعة من الدلائل أهمها الطواحين بأنواعها المائية التي تكثر في منطقة اللوا والقرى الشرقية من جبل العرب، إضافة الى طواحين صخرية وهي مقسومة لقسمين، وكذلك طاحونة رومانية تعود للعصر الروماني».

ويختم "حاطوم" حديثه بالإشارة إلى أن الباحث الدكتور "خالد كيوان" أضاء في دراسته وفي بحوثه على نقاط غاية في الأهمية وبالدلائل التاريخية والمادية لزراعة القمح في جبل العرب، وربطها بالعامل الأثري وهي دراسة تستحق الوقوف عندها، وهي دليل إضافي على أن منطقة حوران وجبل العرب مخزن أثري يناشد الباحثين والدارسين استكشاف ما فيه من كنوز.