لم تكن الحجارة مشروعاً فنيّاً حين عَرَفها "عبد السلام قطرميز" (حماة 1939) طفلاً يُرافق والده العامل في البناء، غير أن اعتياد الاشتغال عليها بالتكسير والتهذيب والرصف، إضافةً إلى "التكحيل" بإعطاء الحجر لوناً أسود، ومن ثم تزيين واجهات الأبنية ذات الحجر المُسمى "التلفيتي"، برسم النسر السوري عليها، كل هذا جعله مُتمرساً في التعاطي مع مختلف أنواع الحجارة، إلى جانب اهتمامه بالرسم، والذي بدأه بالخطوط حول النوافذ العالية في بيت عائلته المبني من "الكلسة" العربية المطلية بالطين والتبن.

خَطوات..

الرغبة في تطويع الحجر، اتخذت طريقاً أكاديمياً مع إيفاد "قطرميز" عقب نجاحه في الثانوية إلى "مصر" لدراسة الفنون، هناك عرف النحت بالطين لأول مرة، وسرعان ما أثبت جدارة بنيله درجةً تامة عن عملٍ يُصوّر قروياً، ومع افتتاح كلية الفنون الجميلة في "سورية"، عاد إلى "دمشق"، وتابع دراسته بإشراف عددٍ من الفنانين الكبار أمثال "محمود جلال، جاك وردة، مخلص صابوني، نصير شورى"، لِيتخرج ضمن الدفعة الأولى عام 1964، مُقدِّماً مشروعاً للتخرج عن موسم القمح، لا تزال قطعٌ منه محفوظة حتى اليوم بين مكتب عمادة كلية الفنون الجميلة، ونقابة المهندسين الزراعيين، والمتحف الوطني في دمشق "المحراث".

معظم أعمالي تنتمي إلى الأسلوب الواقعي المُبسّط من ناحية السطوح، وهو ما يُميزني عن غيري، إضافةً إلى إنجاز الأعمال النحتية بحجمٍ صغير بدايةً بحيث أتمكن من السيطرة على الكتلة ثم ألجأ إلى تكبيرها، وهو ما فعلتُه حين قدّمت تمثال الرئيس الراحل "حافظ الأسد"، صممته بدايةً بقياس 70 سم، ثم عملت على تكبيره عدة مرات حتى وصل إلى ارتفاع خمسة عشر متراً، وفي بعض الأحيان المساحة المخصصة للعرض، تفرضُ عليّ حجماً معيناً

عُيّن "قطرميز" رئيساً لمركز الفنون التشكيلية في "حماة"، وافتتح فيه قسماً للنحت، استقطب أعداداً كبيرة من الطلاب، ثم درّس مادة النحت في كلية الفنون الجميلة، كما درّسها في مركز "أدهم اسماعيل للفنون التشكيلية في دمشق" حوالي عشر سنوات، إلى جانب مساهمته في تأسيس نقابة الفنون الجميلة، كذلك شغل ما بين عامي 1969- 2002 منصب مدير "مركز أحمد وليد عزت للفنون التطبيقية"، وخلال هذه الفترة درس عام 1975 فن النحت على الحجر والرخام في مدينة "كارارا الإيطالية"، بينما بقي الرسم هواية، أنجز في ميدانها عدة لوحات زيتية، واستفاد منها في فن النحت.

الواقعية والتّبسيط

يقول النحّات "عبد السلام قطرميز" في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": «معظم أعمالي تنتمي إلى الأسلوب الواقعي المُبسّط من ناحية السطوح، وهو ما يُميزني عن غيري، إضافةً إلى إنجاز الأعمال النحتية بحجمٍ صغير بدايةً بحيث أتمكن من السيطرة على الكتلة ثم ألجأ إلى تكبيرها، وهو ما فعلتُه حين قدّمت تمثال الرئيس الراحل "حافظ الأسد"، صممته بدايةً بقياس 70 سم، ثم عملت على تكبيره عدة مرات حتى وصل إلى ارتفاع خمسة عشر متراً، وفي بعض الأحيان المساحة المخصصة للعرض، تفرضُ عليّ حجماً معيناً».

نُصب شامخة

اقترن اسم النحّات" قطرميز" بالنُصُب التذكاريّة الضخمة، أهمها "الثوري العربي"؛ اشترك في إنجازه مع الفنانين الراحلين "محمود جلال ووديع رحمة"، نُفِّذ بمادة البرونز بعد أن تمّ تشكيله بمادة الطين ثم الجص، وُضِع عام 1967 في ساحة المحافظة بـ"دمشق"، ثم نُقِل لاحقاً إلى منطقة البرامكة، وفي عام 1972 نفّذ نُصُباً تذكارياً للثورة السورية في جبل العرب، عبارة عن فارسٍ عربي يرتدي الزي الشعبي لمحافظة "السويداء" ويمتطي حصاناً يستند إلى قائمتيه الخلفيتين، لاحقاً في عام 1977 نفّذ بمادة الرخام الإيطالي الأبيض نُصُباً تذكارياً للثورة السورية الكبرى في "درعا"، يُمثّل مجاهداً على كتفه بندقية وباليد الأخرى يحمل سنابل قمح، أيضاً عام 1983 نفّذ نُصُباً تذكارياً لمجاهدي الثورة السورية الكبرى في "حماة" في ساحة بمدخل المدينة الشمالي، تُزينه لوحة من الفسيفساء الزجاجي.

وفي عام 1990 نفّذ نُصُباً تذكارياً للرئيس الراحل "حافظ الأسد" على تلّة مقابل معمل "أسمنت طرطوس"، بارتفاع خمسة عشر متراً، نُحِتَ العمل في إحدى ساحات "معرض دمشق الدولي القديم"، بالتعاون مع النحّات "محمود شاهين"، ثم سُحِبت قوالبه ونُفِّذ بمادة الحجر الصناعي، وفي رصيده ترميم تمثال "رياض الصلح" في "بيروت" عام 1978 مع تعويضٍ كُلي للأجزاء المفقودة بمادة البرونز وتصميم وبناء القاعدة، كذلك صمم ونفّذ اللوحة الجدارية لمجمع صحارى العمالي بريف دمشق عام 2002 بمساحةٍ كليّة قرابة 600 متر مربّع بمادة البوليستر، وتُمثّل بانوراما فنية للجغرافية السورية العريقة بتنوعاتها المختلفة.

كلاسيكيّة مُتقنة

يعد النحات "عبد السلام قطرميز" واحداً من النحاتين المهمّين الذين نهضت على عاتقهم حركة فن النحت الحديث في "سوريّة"، والكلام للناقد التشكيلي والنحات د."محمود شاهين" والذي يضيف: «منذ تخرّجه في قسم النحت بكلية الفنون الجميلة، يعمل بجدٍ واجتهادٍ في هذا المجال؛ إنتاجاً وتأهيلاً للكوادر الفنيّة الشابة من خلال ترؤسه "مركز أحمد وليد عزت للفنون التطبيقيّة بدمشق"، وتدريسه مادتي النحت والخزف فيه لعدة عقود من الزمن، وما زال يُثري حركة النحت السوري المعاصر بعطاءاتٍ مُتلاحقة حتى اليوم، سواء بالأعمال النُّصبيّة أو الحُجريّة، يُضاف إلى ذلك تمكّنه من تقانات فن النحت كافةً وخبراته العميقة في التعامل معها، بدءاً بمادة البرونز وخامتي الحجر والرخام وانتهاءً بالحجر الصناعي والخزف والبوليستر وغيره».

وعن اتجاهات "قطرميز" في النحت يقول "شاهين": «تُصنف تجربة النحات "قطرميز" ضمن الاتجاه الواقعي الرصين، والممثل لروح وقيم الكلاسيكيّة المُتقنة، غير أن له أيضاً توجهاتٍ واقعيّة مختزلة شارف في بعضها التكعيبيّة، وفي بعضها الآخر لامسَ التجريد الهندسي القائم على النسب الواقعيّة، ما أعطى منحوتاته مُعادلاً بصرياً يقفُ في البرزخ الفاصل بين (المشخّص) و(المجرّد)، معادلاً يقوم بمشاغلة بصر المتلقي ويدفعه للقيام بعملية تفكيك وتركيب وإدراك لمكوّناته البصريّة بحثاً عما تكتنزه من دلالات وإيحاءات ومعانٍ، وفقاً للحالة اللحظيّة التي تتلّبسه أثناء مواجهته للعمل، الذي رغم صِغر حجمه أحياناً يحمل خاصيّة نصُبيّة مُدهشة».

النّحت التّجريدي

حقق "قطرميز" شهرةً منذ الستينيات بكونه نحّاتاً واقعياً، أنجز أعمالاً نُصُبية بقياساتٍ كبيرةٍ جداً، إلا أنه في مراحل لاحقة قدّم منحوتاتٍ حديثة، على ما يراه الناقد التشكيلي والفنان "أديب مخزوم" حيث يقول: «النحّات "قطرميز" كان منفتحاً على كل الاتجاهات والأساليب الفنية، القديمة والحديثة، خاض غمار النحت التجريدي الحديث، وهذه ميزة قلّما نجدها في نحّاتٍ آخر، فمعظم النحاتين أو الفنانين يتدرجون في تجاربهم من الواقعية إلى التشكيل الحديث، أو يبقون في إطار مدرسةٍ واتجاهٍ واحد، أما هو فقد نوّع في التقنيات، وتنقّل بين المدارس والأساليب من أقصى حدود الواقعية إلى أقصى حالات التبسيط والاختصار والتجريد، ما يؤكد قدرة استيعابه لجماليات النحت الحديث وعدم تعصبه لاتجاهٍ دون آخر كما هي الحال عند فنانين آخرين، يحاولون إلغاء الآخر، الذي لا تتوافق أعمالهم مع اتجاهاته الفنية، مُتجاهلين أن الإبداع الحديث يتطلب الخروج عن الأنماط المألوفة والبحث عن أسلوبٍ خاص بكل فنانٍ على حدة».