ربط أهالي "جبل العرب" وقبل قرون من الزمن، بين الإيقاعات الفنية الموسيقية مع دلالة ومعاني كلمات نظمها المزارعون لحاجتهم لها في العمل الزراعي، وفي مقدمتها العلاقة مع خير السماء عن طريق الأنغام الموسيقية والإيقاعات المتنوعة والمتعددة لاستجلاب المطر.

الاختلاف والتّشابه

قد يظن البعض أن هذه الأغاني شبيهة بعادات وتقاليد الاستسقاء ويا "أم الغيث" التي كانت واحدة عند معظم المناطق العربية والسورية خاصة، ولكن هنا تختلف في الأسلوب والرؤية وطريقة التقديم مع التنوع الإبداعي الموسيقي وتعدد المقامات والإيقاعات، إذ يرى الباحث التراثي والموسيقي "سلمان البدعيش" المدرس المتقاعد للموسيقا في "السويداء" أن الرؤية القديمة تختلف عن الاستسقاء التقليدي السنوي، إذ يتم من خلال إيقاعات فنية وأغانٍ يستخدمها المزارعون لبناء علاقة بين الإنتاج الزراعي وخاصة البذار مع عطاء السماء من الخير والمطر، وتلك الأغاني تحمل دلالة العلاقات الإبداعية المهمة في تراث وتاريخ جبل العرب، حيث تأتي الايقاعات غالباً على مقياس لحني ثلاثي الأبعاد كما في ألحان "الهجينة" أو رباعية على مقياس لحني 4/4 ضربات إيقاعية، أما اللحن فيكون في الغالب على مقام البيات الشرقي لتحمله "ربع تون" في الصوت، والأهم أن التجمع الاجتماعي السكاني بلحظة واحدة وبصوت موحد غالباً ما يتم الانسجام بين حاجة الأرض والفلاح والسماء، وهي الرؤية والفسحة الجمالية الإنسانية التي غالباً ما تبنى عليها آمال القادم من السنين في سير العملية الإنتاجية للزراعة.

الأداء الصوتيّ

ويشير الباحث "البدعيش" إلى أن ما يميز أداء تلك الأغاني الشعبية هي الأصوات الشبابية الحاملة للعُرب الصوتية والصفاء والنقاء في خامة وطبيعة الصوت المؤدى، إذ حين ينحبس المطر لمدة طويلة، ويهدد الموسم الزراعي بالمحل يرفع رجال الدين دعواتهم إلى الله ويقومون بالصلوات طالبين الغيث من كرم الله، بينما يقوم شباب وفتيات القرية كل على حدة بطلب الغيث على طريقتهم والتي تسمى "القرنْدَس"، فيلجأ الشبان إلى إلباس فتى يافع ملابس بالية ورثة وغريبة، ويشحّرون وجهه بالأسود ويسمونه "القرندس"، حيث يسير أمام الشباب وهم من خلفه يجولون في القرية يدخلون كل بيت وهم يغنون:

الباحث سلمان البدعيش

قرندس قرندس بدّو حبة ملبّس

ويطلبون من أصحاب كل بيت يدخلونه التبرع بالدراهم أو القمح.

المخرج تيسير العباس

عند النّساء

سلمان البدعيش

ويضيف "البدعيش" لـ"مدونة وطن": إن الفتيات يقمن بإلباس إحداهن ملابس مموهة مع رفع لثام يغطي الوجه حتى أسفل العينين كي لا تُعرف الفتاة التي يطلقون عليها اسم "أم الغيث"، وتسير في طرقات القرية والفتيات من خلفها ويدخلن كل بيت من بيوت القرية وهن يرددن الأغاني والدعاء مثل:

يا أم الغيث غيثينا بـدار الشيخ ضيـفـينـا

لولا فلان ما جينا يفتح المصر ويعطينا

وفلان هنا هو صاحب الدار. أما المْصَرْ فهو المحفظة أو قطعة القماش التي توضع فيها الدراهم ويصر عليها، أي تلف بها الدراهم، أو:

يا أم الغيث يا سلمان تسقي زرعنا العطشان

يا أم الغيـث يا شبـلـي تسقـي زرعـنا القبـلي

يا أم الغيـث يـا دايـم تسقـي زرعـنا النايـم

ويطلب من صاحبة البيت تقديم ما تجود به نفسها من مال أو قمح، فإذا كان ما قدمته مُرضياً، يغنين لها:

تنكة فوق تنكة صاحبة البيت ملكة

أما إذا بخلت عليهن فغالباً ما يكون الغناء هجاءً لها، ويجمع ما يتبرع به المحسنون من مال وقمح، فيقدم المال إلى ضريح أحد الأولياء الصالحين، أما القمح فيسلق في الضريح نفسه ويؤكل مسلوقاً، مع الدعاء والطلب إلى صاحب الضريح الشفاعة عند الله كي يرسل الغيث.

مقامات

وبين الباحث التراثي "تيسير العباس" أن الأغاني القديمة التي استخدمت في تاريخ جبل العرب متنوعة، ومنها تلك الأصوات الرخيمة التي كانت تؤدي الأغنية الشعبية من أصوات شبابية وأنثوية بقصد الغيث والاستسقاء، ولكن ما يميزها ليس الشكل الظاهري بل لعل البحث هنا في المضمون. وينوه الباحث "سلمان البدعيش" إلى طريقة أداء ولباس كل من الشباب أو الشابات الذين كانوا يمرون على مساحة البلدة أو القرية أو المدينة، ولكن ما تم اتباعه في جبل العرب هي العلاقة القائمة بين التماهي مع مقام وإيقاع الأغنية، إن كانت إيقاعاً مركباً أو على مقاييس متحركة وذات وزن ثابت مع المقسوم أو الوحدة أو الفاخت أو المصمودي الثقيل أو الخفيف، أو على مقامات مثل البيات الشرقي الحامل لربع الصوت، والأهم الأداء الذي تتماهى الأرواح مع جمال الأداء والطبيعة لتعانق السماء حقاً بإيقاعاتها ويتم التعانق الروحي بين الأرض والسماء علّها تستجيب إلى ابتهالات الأرض وتسكب ما تحتاجه من المطر والغيث.