نحو ألفي عام مرت، ولا تزال رائحة البخور تعبق في المكان، هناك في "دير مكاريوس"، حيث يحتفظ خلف جدرانه التي لم تنل منها السنين، بأرشيف مملوء بآلاف الحكايات التي خط حروفها من جاء المنطقة ساكناً، ليقرأها فيما بعد من أتاه زائراً أو باحثاً عن التاريخ الذي أبصر نور الولادة في أحضان ذلك الدير، ليبقى الناطق الرسمي باسم من سكنوه واستوطنوه، ومن كانوا عابري طريق.

شموخ

من يزور ذلك الدير سيشعر كأنه يجالس التاريخ، ليحدثه عن أيام زمان وما جرى فيه من أحداث تاريخية وحوارات ثقافية وقضايا اجتماعية

من جاء "دير مكاريوس" مستكشفاً ما تخفيه دهاليزه من قصصٍ وحكايات، سيراه شامخاً متربعاً فوق تلة صخرية، وعينيه ترنو غرباً وشرقاً علها تلمح ونيساً يُشعل في محرابه "عيدان البخور" التي افتقدها منذ مئات السنين.

وعن الدير يتحدث لـ"مدونة وطن eSYria" رئيس دائرة آثار السويداء "وليد أبو رايد" قائلاً: «أبواب الدير لم تُشرع في العصر البيزنطي، فأول من طرق أبوابه هم الوثنيون، ومع تعاقب العصور والأزمنة، تحول المعبد إلى كنيسةٍ بيزنطية، يأتيها من جاءها متعبداً، لتبقى أرواحهم -ورغم تلك السنين- حاضرة في دواخل الدير رغم غياب أجسادهم، لتنبئك عن تاريخ تلك الحقبة وما مر عليها من أحداثٍ مازالت مكتوبة على حجارة ذلك الدير، يقرؤها الداخل إليه والخارج منه».

ويتابع "أبو رايد" بالقول: «من يزور ذلك الدير سيشعر كأنه يجالس التاريخ، ليحدثه عن أيام زمان وما جرى فيه من أحداث تاريخية وحوارات ثقافية وقضايا اجتماعية».

وليد أبو رايد

روعة الهندسة

قرية كارس محتضنة الدير

يقول "أبو رايد": «جمالية الدير المعمارية، التي شيدتها، وتفننت في تصميم حجارتها أيادٍ ماهرة متمرسة، لم "تبهت" لتاريخه، فالصورة البنائية للدير التي رسمها من عاشوا في تلك الأزمنة منذ ألفي عام، لم تتبدل ولم تنل منها العوامل الطبيعية، إلا قليلاً، فعندما تطأ قدماك على بلاطات ذلك الدير البازلتية، فإن أول ما تلمحه عيناك جدرانه المبنية بطريقة هندسية ولا أجمل، حيث تتخلل بعضها نوافذ صغيرة، تسمح لأشعة الشمس بالدخول إلى أروقة الدير، والمتجول لابد له أن يلحظ وجود بعض التهدمات في جداره الجنوبي، أما في جزئه الغربي، لابد أن تلتقط كاميرا العين ساحةً مربعة الشكل، تصطف على جانبها غرفتان مشيدتان أسفل البرجين الملازمين لمدخل الدير، ما زالتا حارستي الحضارة، فعلى جدرانهما أرّخ الأقدمون تاريخاً عمره آلاف الأعوام، ليبقى بمنزلة الكتاب المفتوح والمقروء للمهتمين من الأجيال الحاضرة».

ويضيف: «رحلة البحث والاستكشاف لم تنته هنا، فالدير ما زال يحتفظ بجناح لمن أتاه خاشعاً ومصلياً، فهو مقسم إلى ثلاثة أقسام، مفصولة عن بعضها بواسطة دعامتين تحملان زوجاً من القناطر المتقابلة، والتي لاتزال قائمة لتاريخه، إضافة لوجود بهو كبير، من المحتمل أنه كان يستخدم كمستودع لمستلزمات الدير، ولعل أجمل ما في الدير طريقة بنائه المنفذة بإتقان ودقة متناهية، والمشغولة بالحجر البازلتي المشذب».

مقومات أثرية

من غير الممكن للزائر إلى "دير مكاريوس" الأثري أن يغادره من دون أن "يعرّج" إلى الأم الولادة لذلك الدير ألا وهي قرية "الكارس"، والتي تعود تسميتها نسبة للدير، وعن ذلك يقول الباحث الأثري "نايف أبو مغضب": «تقع القرية على صبة بازلتية موغلة في القدم، تستفيق صباحاً على حفيف أشجار البلوط، ولا تزال تحتضن العديد من المعالم الأثرية، التي وجدت لتحاكي "دير مكاريوس"، لتبقى تلك الأوابد الحية الشاهد على أول من سكن تلك المنطقة، والذين رحلوا تاركين وراءهم بصمة تاريخية، لم يمحها طول السنين، ومازالت طلاسمها عصية على الترجمة لتاريخه، فكلما تمعن الباحثون بالاستكشاف أكثر، كلما وجدوا أشياءً جديدة.. مقومات أثرية لا تقدر بثمن تحتفظ بها قرية "الكارس"، ما يؤهلها للاستثمار سياحياً».