رجلٌ يغتصب طفلة، أمٌ تتخلى عن صغيرها، زوجٌ يقتل زوجته؛ هذه ليست إلّا عناوين عريضة لجرائم مُقززة تحدث حولنا، إلى جانب ما أفرزته السنوات الأخيرة من غضبٍ وقهرٍ وحزنٍ، لا يتردد البعض في التعبير عنها علناً، فيما يُمكن ملاحظتها بسهولة في تصرفات آخرين وزلّات ألسنتهم

ليس مستحيلا

غير أن السيطرة على كل ما يجري وإمكانية تلافي الكثير من الآلام والأخطاء والكوارث، ليست أمراً مُستحيلاً كما يظن البعض، بل غايةً يمكن الوصول إليها، رغم صعوبات الطريق وتعرجاته، تماماً كما فعل الدكتور سليمان كاسوحة (رئيس مجلس الأمناء لمؤسسة تعاطف للتنمية والتواصل اللاعنفي)، الحاصل على دكتوراه في علم نفس التواصل، والأستاذ في قسم علم النفس في جامعة دمشق، حين بدأ قبل أعوام تدريباتٍ في منهج التواصل اللاعنفي وحل النزاعات، مع العديد من الجهات العامة والخاصة في جميع المحافظات السورية، كما رافق أشخاصاً في رحلتهم لِعيش لغة حياة التواصل اللاعنفي عن طريق مجموعات حياة مُمتدة في مناطق مختلفة، ومن ثم كان القرار بالتحوّل إلى مُؤسسة تُتيح نشر الفكر الذي يتبناه على أوسع المستويات.

تبعات العنف

خلال العام الجاري أُشهِرت مؤسسة "تعاطف للتنمية والتواصل اللاعنفي"، من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، لتكون حاصنة للسلام ونشر لغة التواصل اللاعنفي، التي أسسها عالم النفس الأمريكي "مارشال روزنبرغ" 1934 – 2015.

تقول لينا صقر المديرة التنفيذية في مؤسسة تعاطف في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "بسبب ازدياد العنف وظهور تبعاته بعد سنوات الحرب في المواصلات والمدارس وداخل الأسر في سورية، بدأت مؤسسة تعاطف بمتابعة رحلة نشر مفهوم التواصل اللاعنفي وتعزيز مفاهيمه وركائزه، أهمها أن لكل شخص موارد جديرة بالتقدير والاحترام، تظهر من خلال التعاطف الإنساني، وأنّ كل السلوكيات التي يقوم بها الأشخاص هي محاولة لتلبية حاجاتهم مهما اختلفت، لكن الصراع والعنف يتولّدان نتيجة اختلاف استراتيجيات الأشخاص بتلبيتهم لحاجاتهم، وهنا يشير التواصل اللاعنفي لأهمية إدراك الإنسان لهذه الفكرة".

للجميع

تهتم المؤسسة بتكوين وتطوير معارف واتجاهات الأفراد والمؤسسات من خلال المنهج اللاعنفي، وتُقدّم تدريبات متنوعة لتمكين الأفراد في مجالات الصحة النفسية مثل "الدعم النفسي، الإسعاف النفسي الأولي، التعامل مع الغضب، العبور، الشفاء من الصدمات"، وفي خطتها القادمة تقديم استشارات فردية وجماعية، نفسية واجتماعية، من قبل مُختصين، يُضاف إليها وساطات وتدخلات لحل النزاعات بين الأفراد والمؤسسات، تقول صقر: "المنهج لا يستهدف فئة أو شريحة، إنما يُخاطب الجميع، ونعمل على تكييفه وتطويره لتقديمه للأطفال في المدارس وغيرهم من الفئات العمريّة المختلفة، كما نسعى للتشبيك مع مُختلف المؤسسات والجهات".

مجموعات سلام

يثق لؤي عويدات، مُدرّب منهج التواصل اللاعنفي في مؤسسة تعاطف، بأن جهود المؤسسة مُثمرة، كما ظهر في أحاديث المُتدربين وسلوكياتهم خلال أيام التدريب المتتالية، وهو ما يعود عليه بالرضى والسعادة. يقول للمدوّنة: "نسعى في المؤسسة لبناء مجموعات سلام ستؤثر إيجاباً في نشر السلام وتخفيف أثر العنف وتنتقل إلى حلقات أوسع، لهذا نُركّز في تدريباتنا على فكرة التعاطف مع الذات، ونُقدّم نشاطاتٍ عملية تدعم تعاطف المُتدربين مع ذواتهم، من مبدأ أن الشخص الغير قادر على التعاطف مع ذاته، لن يكون قادراً على التعاطف مع الآخرين، كما نهتم أيضاً بشرح مُعيقات التواصل اللاعنفي، كالأحكام المُسبقة والمُقارنات والأوامر وإنكار مسؤوليتنا عن أفعالنا ومشاعرنا، ونميل للتشجيع على الاستخدام التكاملي للقوة، وليس العقابي الذي يسبب عنفاً أكبر".

ويشرح عويدات عن استخدام الخطوات الأربع لمنهج التواصل اللاعنفي في التواصل مع الآخرين، وهي (الملاحظة، المشاعر، الحاجات، الطلب): "تُساهم هذه الخطوات في التعبير عن أنفسنا بطريقة تحترم مشاعرنا وحاجاتنا ومشاعر الآخر وحاجاته، وتساعد في بناء علاقات إنسانيّة تدعم قيم السلام والاحترام والأصالة والقبول غير المشروط للآخر من خلال النظر للإنسان بكليّته".

منهجُ حياة

تُؤمن الدكتورة هند الحرش، المُختصة في علم النفس ومُدرِّبة التواصل اللاعنفي في المؤسسة، بأن العنف لا يقتصر فقط على الحرب ومُمارسة القوة، بل يشمل ما نقوم به في تواصلنا أيضاً، لذلك كان هدف "تعاطف" التوعية بالمنهج اللاعنفي القائم على الملاحظة الدقيقة بعيداً عن الأحكام والمقارنات والتمييز، باعتباره منهج حياةٍ مُستمر لا ينتهي بانتهاء تقديم معلومات ومعارف كما يحدث في معظم الورشات الأخرى، تقول للمدوّنة: "يُركز المنهج على الوعي بالمشاعر والحاجات والتعبير عنهما، وتحمّل مسؤوليتنا تجاه مشاعرنا وحاجاتنا بدلاً من إلقاء اللوم على الآخرين، واكتشاف استراتيجيات متعددة تساعد على تلبيتها انطلاقاً من رغبة وقدرة الشخص، لأن الحاجات غير الملبّاة سببٌ رئيسيٌ للعنف، وهناك موارد تكفي الجميع لتلبيتها بعيداً عن العدوان والعنف".

أسلوب عيش

في الكلام عن خفض نسبة العنف المرتفعة منذ أعوام، تقول ميشلين عثمان من المؤسسة: "نشر منهج التواصل اللاعنفي مهم لخفض العنف وبناء السلام، يساعدنا على الارتباط ببعضنا البعض وبأنفسنا بطريقة تسمح لمشاعرنا الطبيعية الموجودة بداخلنا بالنمو والازدهار، وهي تأخذ بأيدينا نحو إعادة صياغة طريقتنا في التعبير عن أنفسنا والإصغاء للآخرين، من خلال تركيز إدراكنا على الجوانب الأربعة: ما نلاحظه، وما نشعر به، وما نحتاجه، وما نطلبه، من أجل جعل حياتنا أكثر قيمة وعمقاً، كما تدعم عملية التواصل اللاعنفي الإصغاء العميق والاحترام والتعاطف، وتُولّد رغبة حقيقية في أن نعطي للآخرين عطاءً من القلب".

تشرح عثمان عن استخدامات المنهج: "يستخدم بعض الناس التواصل اللاعنفي للتجاوب مع أنفسهم بصورة متعاطفة، والبعض الآخر من أجل إضفاء مزيد من العمق في علاقاتهم الشخصية، وهناك آخرون يستخدمونه لبناء علاقات فعالة في العمل أو في مجال السياسة، وعلى مستوى العالم، يُستخدم التواصل اللاعنفي للتوسط في حل النزاعات والصراعات على كل المستويات، عملية التواصل اللاعنفي سوف تحل محل أنماطنا القديمة في مواجهة الحكم علينا أو انتقادنا، الدفاع أو الانسحاب أو الهجوم، سنصل إلى إدراك أنفسنا وإدراك الآخرين، وكذلك إدراك نوايانا وعلاقاتنا في ضوء جديد، وستقل مقاومتنا الدفاعية وردود أفعالنا العنيفة، عندما نُركّز على ما نلاحظه ونشعر به ونحتاج إليه، بدلاً من تشخيص الآخرين والحكم عليهم".

تضيف عثمان: "رغم أننا نشير إلى التواصل اللاعنفي على أنه أكثر من مجرد عملية أو لغة، فهو على مستوى أعمق، أسلوب عيشٍ وحياة، يُحافظ على طبيعتنا الشفوقة الرحيمة، حتى عند التعرض لظروفٍ شاقةٍ وقاسيةٍ".