الحكواتي هو ذلك الشخصية الشعبية التقليدية المحببة والتي تعلق بها واندمج معها أبناء الأجيال القديمة في أغلب المدن السورية، وخاصة في مدينتي "حلب ودمشق" من خلال ما كان يقدمه من قصص مثيرة وحبكات درامية يتلوها على المستمعين من الكتب والسير القديمة في سهرات المقاهي.

خزّان ثقافة

لم يقتصر دور الحكواتي على سرد القصص والحكايات فقط، بل يضفي عليها حركة تجعل السامع يعيش الأحداث بتفاصيلها، فالحكواتي شخص يتمتع بثقافة وعلم وأدب، امتهن سرد القصص في المقاهي، ولم يكن يكتفي بسرد أحداث القصة التي يرويها، بل يعمد إلى تمثيل التفاعل والحماسة بالصوت والحركات والبكاء والفرح.

يتمتع "غزوان" بذاكرة فولاذية وإمكانات ذهنية، ويسرد أدق التفاصيل بكل حذافيرها.. هو ابن البيئة الحلبية الشعبية القديمة، وكل ذلك سهّل من مهمته ودوره، ومحاضراته فيها الإثارة والتشويق

ويعد الحكواتي الشعبي جزءاً من التراث السوري، انتشر في القرن التاسع عشر وكان الناس يقصدون المقاهي التي تستضيف الحكواتي بلهفة للاستماع لهم، ومن أبرز القصص والسير التي كان يرويها في تلك الفترة "الظاهر بيبرس وعنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي وصفوان ابن البهلوان ومعد يكرب الزبيدي" وغيرهم، وكانت تعتبر تلك السهرات بمثابة وسيلة ترفيهية وتثقيفية وتوجيهية تحض على الأخلاق ونصرة المظلوم، ويعمد خلالها الحكواتي إلى التلاعب بالمفردات والألفاظ، بحيث تبقى حواس جميع الحضور متعلقة بما سيقوله من جملة خلف الأخرى؛ وكان يعمد إلى إنهاء حديث سهرة الليلة بموقف محرج وحبكة مثيرة.

"غزوان بوسطه جي" يلقي أمسية عن السردات الحلبية في جمعية العاديات.

ولشدة تأثر بعض الحضور بسيرة القصة كان ثمة من يتبعه خارج المقهى، طالباً منه كشف بعض التفاصيل عن مصير أبطال قصصه كعنترة أو الزير، لكن الحكواتي كان يرفض كشف أسرار قصته قبل حلول موعدها.

ولم يكن بمقدور أي شخص القيام بمهام الحكواتي، حيث يتطلب بمن يقوم بهذا الدور أن تكون له مواصفات خاصة في الحضور الذهني والثقافة والعلم والشكل والمظهر واللباس والذكاء والفطنة والحفظ وإلقاء الشعر وجذب المتلقين لحديثه.

شهادات أدبية بحق الحكواتي "غزوان" من المهندس محمد خير الدين الرفاعي والمدرس مروان قره بللي والاديب يوسف رشيد.

بين الماضي والحاضر

شغف وكثافة الجمهور الحاضر بالاستماع للسردات الحلبية

واشتهرت المقاهي الحلبية أيضاً بوجود الحكواتي سابقاً، وتعلق أبناء الأحياء الشعبية بحضور سهرات وسماع قصص الحكواتي، ولكن مع تبدل الزمان والمكان وتطور الحياة، تغير شكل الحكاية والشخصية والسردة والبداية والنهاية، وأصبحت أقرب للواقع ولحياة الناس.

ويعد الحكواتي "غزوان بوسطه جي" واحداً من القلائل الذين لا زالوا متمسكين بمهنة الحكواتي، والذي يقول في حديثه لـ"المدونة": «أنا من عائلة حلبية عريقة من "حي الكلاسة المغاير"، وجدي "الحاج أحمد بوسطه جي" وكان شاعراً مشهوراً وناظماً للموال، وكان عنده مضافة أشبه ما تكون بالصالون الأدبي في هذا الزمان، وكان يجتمع فيها "كبارية" الحي بسهرات حتى منتصف الليل، فهذا يقول الحكاية وذاك يقول الشعر وآخر يروي الطرفة، وكان لكل واحد من الحاضرين بالسهرة دوراً بما يمتلكه من مهارة، وكذلك والدي "الحاج يوسف" سار على نهج أبيه وتقمص وحفظ عنه الكثير من الموروثات الشعبية بكل تفاصيلها، كل تلك الأحداث كنت حاضراً عليها، وأنا طفل صغير، وكان دوري ينحصر بتقديم الضيافة من الشاي والقهوة، وسماع وحفظ الحكايات والأمثال والأشعار».

ويضيف "بوسطه جي": «بداية أغلب السهرات تكون من عند الحكواتي، ويفتتحها بجملة (قال الراوي يا سادة يا كرام)، وتقال باللهجة الشعبية المحلية الحلبية، ويقرأ خلالها من كتاب يحضره معه من قصص "الزير سالم أو عنترة أو زرقاء اليمامة أو أبو زيد الهلالي"، وطبعاً كلها قصص من التاريخ، لكن الحكواتي خلال سرده للقصة كان يعمد إلى بعض التهويل والإضافات من بنات أفكاره، مثل زيادة عدد من قابلهم عنترة في معاركه وبمفرده، وينهي الحكواتي السهرة بحبكة، ويؤجل كشف البقية والتفاصيل لسهرة الليلة القادمة، وبالطريقة نفسها حرصت المقاهي الحلبية على استضافة الحكواتية فوق مساطبها، واستمرت في ذلك حتى فترة السبعينيات من القرن الماضي، إلى أن حدث التحول وتقلص دور الحكواتي في المقاهي، مع وصول بث المذياع إلى المنازل، والتفت الناس إلى سماع القصص والمسلسلات الرمضانية من المذياع، وجاء بعده دخول التلفاز إلى المنازل، وبث مسلسلات عربية وبدوية ومصرية بالسهرات الرمضانية، ليضعف أكثر من وجود وفرص الحكواتي في المقاهي، التي بدورها واكبت التغيير، وحرصت على وضع شاشة تلفزيون كبيرة وسط مقاهيها أثناء عرض المسلسلات الرمضانية مع تقديم مشروبات الشاي والقهوة والزهورات والأراكيل ولعب الورق».

حكواتي العصر

ويضيف "بوسطه جي": «لازالت شخصية الحكواتي باقية في مخيلتي، لا بل اعتبرتها جزءاً مهماً من موروثنا الشعبي الجميل الذي يجب توثيقه وعدم إهماله، وإعادة التذكير به للأجيال الحالية، وقمت ولمدة أربع سنوات بتدوين كل ما حفظته وسمعته وشاهدته عن طريقة الحكواتي، وقراءة كتب كثيرة تتحدث عن تاريخ وتراث العادات والتقاليد الحلبية، وكتب "ابن العديم والطباخ والغزي وخير الدين الأسدي ومحمد قجة وعبد الله حجار"، وخطرت لي فكرة إعادة تقديم ولعب هذه الشخصية (الحكواتي)، ولكن بطريقة أخرى مختلفة قريبة من الواقع بحيث يقبلها الجمهور والمتلقين، واقتباس مواضيعها من وحي تفاصيل حياتنا الحلبية الشعبية القديمة، من خلال العادات والتقاليد والطقوس والمناسبات وحياة التجار بسوق المدينة، وكذلك الأعراس والأتراح التي أعرفها، ما بين الشعر والطرفة والشدّية وقصص الزواج والكنة والحماية وعميان الجامع الكبير، ونهفات تجار سوق المدينة والحبال والسجاد والذهب».

ويشرح الحكواتي كيف تواصل في عام 2020 مع جمعية العاديات بمدينة "حلب"، والتي رحبت بالفكرة وشجعته على إعادة لعب وتمثيل هذه الشخصية التراثية الحلبية القديمة، مع إضافة بعض التعديلات التي تناسب الذوق العام والثقافة المرتفعة للجمهور في الوقت الحالي.

ويقول: «إن أول التعديلات كان استخدام كلمة سردات بدل حكايات، وثانيها أن تبدأ السردة بكلمة "بزماناتو" بدل قال الراوي (ياسادة ياكرام)، وثالثها الإلقاء والحفظ الغيبي بدل الظهور على المسرح بكتاب يقرأ منه، مع المحافظة على اللباس التقليدي الشعبي القديم من (قمباز وطربوش أحمر وصرماية ومسبحة وكرسي قش مرتفع)».

ويقول "بوسطه جي": «بعد الموافقة والتحضير لمدة أسبوعين، وقفت على المسرح ولمدة ساعة سردت ثلاث قصص عن عادات تجار سوق المدينة وطقوس الحمام الحلبي وشخصية قبضاي من "حلب" باللهجة المحلية الشعبية الحلبية، ولاقت تلك السهرة إقبالاً وتشجيعاً منقطع النظير، وطالبني بعدها الحضور بالبقاء لوقت إضافي وسرد المزيد، وقمت بعدها بتقديم سهرات طوال شهر رمضان، وتصوير عدة لقاءات ومحاضرات وندوات تلفزيونية لقنوات محلية وعالمية».

حلبيات

ويضيف الحكواتي: «قمت بنشر أكثر من خمسمئة سردة وقصيدة شعرية حلبية على صفحتي الشخصية بـ"الفيس بوك"، وأول من شجعني على ذلك المرحوم "تميم قاسمو"، وكتبت قصيدة "يرحم روحك يا جدي" قلت فيها:

يرحم روحك يا جدي مشتقلك صرلي مدة

يا بو قمباز وعرقية وشروال وشالة عجمية

وصرماية حمرا وباكورة وساكوية جوخ وسمنية.

وألقيت بعدها قصيدة عن "حلب" القديمة قلت فيها:

سألتني أصلك من وين جاوبتها بسرعة حلبي

من القلعة لباب جنين معروف بحسبي ونسبي.

شهادات ورؤى

المهندس "خير الدين الرفاعي" رئيس جمعية العاديات يقول: «الحكواتي "بوسطه جي" شخص مبدع وموفق جداً بما يقدمه من سردات حلبية، وتدخل قصصه تحت التراث اللامادي وتشمل الحرف والمهن والعادات والتقاليد الشعبية، وهو يلقى الإقبال والتفاعل الكبير والمحبب من الجمهور الحاضر وبما يكتبه وينشره من سردات وأشعار حلبية».

بدوره يقول المدرس "مروان قره بللي": «يتمتع "غزوان" بذاكرة فولاذية وإمكانات ذهنية، ويسرد أدق التفاصيل بكل حذافيرها.. هو ابن البيئة الحلبية الشعبية القديمة، وكل ذلك سهّل من مهمته ودوره، ومحاضراته فيها الإثارة والتشويق».

ويثني الأديب "يوسف رشيد" على شخصية "بوسطه جي" ويعتبرها أحد الشخصيات العامة في تراث وتاريخ "حلب"، وتدخل ضمن تصنيف المادي واللامادي معاً بالمواضيع التي يجسدها وينشرها، حيث يمتلك ذخيرة هائلة عن عادات وتقاليد أهالي "حلب"، وهو باهر ومبدع في الوصف والتعبير.

تم إجراء اللقاء مع الحكواتي "غزوان بوسطه جي" بتاريخ العشرين من شهر تشرين الثاني لعام 2022 في منزله بـ"حي الجابرية".